شهدت العقود الأربعة الماضية تداخلاً شديداً بين الدين والسياسة في منطقتنا، وكان الإسلاميون – على اختلاف مدارسهم وتوجهاتهم – حاضرين بقوة في مشهد التحولات الكبرى؛ من الثورة الإيرانية، مروراً بالجهاد الأفغاني، وانتهاءً بموجات “الربيع العربي”.
ومن بين تلك التجارب، تظل الجمهورية الإسلامية في إيران واحدة من أكثر النماذج إثارةً للجدل، والتباساً في الفهم، وتضارباً في المواقف.

إيران والردّ الصاروخي: من يمتلك زمام الردع؟

لقد أعادت المواجهة المسلحة الأخيرة بين إيران وإسرائيل – والتي شهدت ردًّا صاروخيًا غير مسبوق من طهران على العدوان الإسرائيلي الذي استهدف قيادات ومواقع داخل الأراضي الإيرانية – طرح الأسئلة الكبرى من جديد:
من يقف اليوم في مواجهة المشروع الصهيوني؟ ومن يمتلك القدرة على ردع إسرائيل وكبح جماحها؟
فرغم الدعم الأمريكي العسكري والاستخباراتي لإسرائيل، أثبتت إيران أنها قادرة على ردّ الصاع صاعين، وأن إسرائيل – رغم ما تمتلكه من ترسانة نووية – ليست سوى كيان هش، أوهى من بيت العنكبوت، كما ظهر جليًا في معركتي “طوفان الأقصى” و”الردّ الإيراني”.

إرث الثورة.. بين فلسطين وتصدير النموذج

منذ انتصار الثورة عام 1979، تبنّى الإمام الخميني خطابًا ثوريًا صريحًا تجاه إسرائيل، واعتبرها “غدة سرطانية يجب استئصالها”، وأعلن وقوفه الحازم مع فلسطين والمستضعفين.
وقد حظي الراحل ياسر عرفات بدعم مبكر من طهران، في وقت كانت فيه بعض الأنظمة العربية تغلق الأبواب أمامه. لكن دعوة الخميني إلى “تصدير الثورة” أثارت ذعرًا في الخليج، فاندفعت تلك الأنظمة – بتحريض غربي – إلى محاصرة الثورة وتشويهها، وتغذية الصراع الطائفي سنّة وشيعة، لتفكيك أيّ جبهة إسلامية موحَّدة.

ومن نتائج هذا التصدّع الطائفي الكارثي، تلك الحرب الضروس التي استدرج إليها العراق بقيادة صدام حسين ضد إيران، والتي استنزفت موارد الأمة، وأعاقت أيّ تقارب استراتيجي بين إيران والحركات الإسلامية السنّية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين.

الجهاد الأفغاني وتبدد البوصلة

في ذروة الحرب العراقية الإيرانية، جاء الغزو السوفييتي لأفغانستان ليحوّل بوصلة الإسلاميين نحو “الجهاد ضد الشيوعية”، وانخرطت معظم الحركات الإسلامية في ذلك المشروع الأممي، مدعومة خليجيًا وأمريكيًا، تاركة إيران في عزلة.

وواصل التيار السلفي – خصوصًا في دول الخليج – حملته الشرسة ضد إيران، وشيطنة تجربتها، ورفض الاعتراف بشرعية نظامها أو مقاومته، بل وصوّرها كخطر أشد من الصهيونية!

ما بعد الجهاد.. انكسارات وتصدعات

مع نهاية الحرب الباردة، عاد “المجاهدون العرب” إلى بلادهم، حاملين معهم أوهام التغيير السريع، واندلعت موجات العنف المسلح والصدام مع الأنظمة، كما في الجزائر ومصر وسوريا.
بينما كانت إيران تبني بهدوء منظومتها الدفاعية، وتعزز تحالفاتها الإقليمية مع سوريا وحزب الله، والدولية مع الصين وروسيا.

في تلك المرحلة، انشغلت تركيا، بقيادة أردوغان، بتثبيت حضورها في “الربيع العربي”، فيما استثمرت إسرائيل موجة التخويف من إيران لجرّ الأنظمة الخليجية إلى تحالفات أمنية واستخباراتية معها، في إطار اتفاقيات “أبراهام” التي كانت تتويجًا لسنوات من التخويف والتطبيع التدريجي، لا سيما بعد تصاعد خطاب “الخطر الشيعي”.

دعوات العقلاء: صوت الوحدة فوق الطائفية

في مقابل هذا التحشيد الطائفي والإعلامي، برزت أصوات داخل الصف الإسلامي تدعو للتماسك، وتحذّر من خطورة التقاطع مع المشروع الصهيوني بدعوى الخصومة مع إيران. ومن هؤلاء:

الشيخ راشد الغنوشي قال:
“نحن نختلف مع إيران سياسيًا في بعض الملفات، لكن لا يجوز أن نغلق أبواب الحوار معها، وهي دولة تقف في وجه أمريكا وإسرائيل.”

الدكتور عزام التميمي كتب:
“أي عاقل يدرك أن مصلحة الأمة ليست في الشقاق الطائفي، بل في مواجهة العدو المشترك… والتقارب مع إيران ضرورة استراتيجية.”

الدكتور محمد سليم العوا صرّح:
“الصراع بين الشيعة والسنة صُنع في مطابخ السياسة، وليس من جوهر الإسلام. العدو الحقيقي هو من يحتل الأرض ويدنّس المقدسات.”

الداعية الشيخ محمد الحسن الددو دعا مرارًا إلى:
“نبذ الفتنة الطائفية، وبناء جبهة موحدة للمقاومة الإسلامية، لأن العدو لا يفرّق بين سنّي وشيعي، بل بين خنوع وكرامة.”

الدكتور إبراهيم الزيات قال:
“العمل الإسلامي العالمي يجب أن يتجاوز النزاعات الهامشية، ويتجه نحو بناء تحالف عريض يشمل كل من يعادي المشروع الصهيوني.”

الدكتور سامي العريان؛ المفكر الإسلامي ورئيس مركز الإسلام والشؤون الدولية (ICGA)،  أكد في أكثر من مناسبة أن:
“الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعًا طائفيًا بين سنة وشيعة، بل هو صراع تحرري بين أمة تسعى لاستعادة كرامتها، وعدو يسعى لتفتيتها عبر أدوات الفرقة والفتنة.”
مشددًا على ضرورة بناء جبهة مقاومة عابرة للطوائف والانتماءات، تعيد الاعتبار لفلسطين كقضية مركزية.

نحو شراكة استراتيجية جديدة

اليوم، ومع تصاعد التهديد الصهيوني، وتفشي التطبيع، وتنامي الضغوط الغربية، تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة وصل ما انقطع بين القوى الإسلامية الكبرى.
إن إيران وتركيا وباكستان وماليزيا، ومعها الحركات الإسلامية الكبرى، تمتلك طاقات كامنة هائلة، وهي إن استطاعت أن تبني رؤية استراتيجية مشتركة، يمكن أن تغيّر ملامح الصراع في المنطقة.

استحقاقات المرحلة: نحو وحدة إسلامية حقيقية

لقد خرجت إيران من هذه المواجهة مع إسرائيل بمكانة إقليمية متقدمة، بعدما أثبتت أن بمقدور دولة إسلامية أن تواجه الغطرسة الأمريكية والصهيونية، وأن تخلق توازن ردع فعلي في المنطقة.

وفي المقابل، فإن الحركة الإسلامية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، وهي تدخل قرنها الثاني، مطالَبة اليوم بإعادة النظر في أولوياتها وخطابها وتحالفاتها، وأن تراجع “موانع” الوحدة الإسلامية، سواء كانت طائفية أو سياسية، وأن تتقدم باتجاه مشروع حضاري إسلامي جامع.

لقد كانت المؤتمرات التي نظّمتها إيران في طهران تحت شعار “الوحدة الإسلامية” خطوة أولى، لكنها تحتاج اليوم إلى مضمون أعمق، ومشاركة أوسع، ورؤية أكثر شمولاً.

إيران كحجر زاوية.. وفلسطين كقضية مركزية

إذا أردنا أن نواجه المشروع الصهيوني فعلاً، فلابد أن نضع فلسطين في قلب أي مشروع إسلامي، ولابد أن نكسر حاجز الطائفية المصطنعة، وندرك أن:
العدو واحد، والمصير واحد، والواجب أوضح من أن يُضبَّب بشبهات الفتنة.

في الختام: سؤال المرحلة

إن إيران، بما راكمته من تجربة سياسية وعسكرية، ومعها القوى الإسلامية والوطنية الحية، قادرة اليوم – إن خلصت النوايا وتلاقحت الرؤى – على ترشيد الفكر الإسلامي، وضبط بوصلة المرحلة القادمة باتجاه الهدف المركزي للأمة: تحرير فلسطين.
فحين تتوحد الجهود وتُرفع راية المقاومة فوق الحسابات الطائفية والمصالح الضيقة، يصبح الأمل واقعًا، وتستعيد الأمة دورها في صنع التاريخ من جديد.

شاركها.