الاستيطان والضم الزاحف: وسائل المواجهة..
لم يتوقف المشروع الاستيطاني الإسرائيلي منذ عام 1967 حتى بعد التوقيع على اتفاق «أوسلو» مع إسرائيل، وفي فترة الخمس سنوات الانتقالية ازداد عدد المستوطنين من 115,000 مستوطن في الضفة بدون القدس الشرقية عام 1993 إلى 177,411 في عام 1999، أي في الفترة التي ينبغي فيها التوصل إلى اتفاق سلام دائم، بنسبة تزيد على 50%. ومن ثم توالت الزيادات إلى أن وصل عدد المستوطنين عام 2022 إلى أكثر من 500,000 مستوطن في الضفة وأكثر من 250,000 مستوطن في القدس الشرقية بما يتجاوز 750,000 مستوطن في المناطق الفلسطينية المحتلة. حسب الإحصائيات التي نشرها المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان التابع لمنظمة التحرير. ونشرت حركة «السلام الآن» الإسرائيلية تقريراً عن المستويات غير المسبوقة في البناء الاستيطاني في العامين الماضيين. («الأيام»، 7/1) حيث ذكر التقرير أن المجلس الأعلى للتخطيط والبناء التابع للإدارة المدنية وافق على انشاء 12349 وحدة سكنية في عام 2023، بينما أقر بناء 9884 وحدة جديدة في العام الماضي 2024، وهذه الزيادة الحادة نتيجة للنشاط المكثف للمجلس الذي يشرف عليه وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي أخذ على عاتقه ضم الضفة الغربية.
الوضع في الضفة الغربية يسير نحو جريمة كبرى تنفذها إسرائيل، وتهدف إلى القضاء على فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة متواصلة جغرافياً وقابلة للحياة على الأراضي المحتلة. وهذه تتم من خلال تقطيع أوصال الضفة ببناء استيطاني كثيف والسيطرة على المناطق الحيوية التي من المفروض أن تشكل جزءاً من الدولة الفلسطينية العتيدة. وعملية الاستيلاء على الأراضي أصبحت سلسة ومتواصلة بدون قيود داخل الضفة. ولا تخفي الحكومة الإسرائيلية وخاصة وزراء «الصهيونية الدينية» سعيها لتطبيق سياسة هدفها منع قيام دولة فلسطينية. حتى أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يتفاخر بأنه يسعى لمنع نشوء الدولة الفلسطينية. وللأسف نحن لم نتخذ أي سياسة جدية لمواجهة المشروع الاستيطاني. ولقد كان الخطأ الأكبر أن اتفاق «أوسلو» لم يشمل وقف الاستيطان كالتزام إسرائيلي واضح بموجب الاتفاق.
اليوم، وبعد حرب غزة انفتحت شهية المستوطنين وممثليهم في الحكومة للذهاب سريعاً نحو الضم من خلال السيطرة على المزيد من الأراضي الفلسطينية واعتبارها أراضي دولة للبناء عليها، عدا عن إقرار بناء مئات الوحدات السكنية بشكل متتابع وانشاء بنية تحتية واسعة تخدم المستوطنات وتتيح تواصلاً جغرافياً بينها دون المرور بالتجمعات السكانية الفلسطينية. وهم ينتظرون الرئيس الأميركي دونالد ترامب لكي يسمح لهم بالضم القانوني والرسمي لمناطق واسعة في الضفة، ربما في عودة إلى صفقة القرن التي تسمح لإسرائيل بضم حوالي 30% من أراضي الضفة الغربية من مناطق (ج) أي نصفها تقريباً. فترامب يقول أن دولة إسرائيل صغيرة ويجب توسيعها.
بغض النظر عن الموقف الأميركي، هناك خطر داهم على المشروع الوطني الفلسطيني من السياسة الإسرائيلية الراهنة، وهذا يتطلب وضع برنامج واسع لمواجهته بعيداً عن الشعارات والأمنيات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وفي إطار هذه المواجهة لا بد أولاً من نزع كل الذرائع الإسرائيلية التي تساعد إسرائيل على تدمير المناطق الفلسطينية وتهجير السكان منها. وهذا يقودنا إلى السؤال: ما هي الوسائل المناسبة لمواجهة الخطر الاستيطاني ويساعد في تعزيز صمود المواطنين على أرض وطنهم؟ هل هو المقاومة المسلحة على طريقة الكتائب المختلفة المنتشرة في مخيمات ومدن وقرى الضفة؟ أم اعتماد وسائل النضال الشعبية والسياسية والدبلوماسية بما في ذلك اللجوء للمحاكم الدولية؟
التجربة الفلسطينية تقول بوضوح أننا ومنذ أن ذهبنا للكفاح المسلح في سنوات الانتفاضة الثانية ونحن في حالة خسارة مستمرة تزداد وتتعمق بدون إنجازات حقيقية على الأرض. وتجربة حرب غزة ربما هي الدليل الحي والصادم الأكبر لحالات المغامرة الفلسطينية التي بدأت في عام 2000 وكانت تخبو تارة وتشتعل تارة أخرى. لا نقول هذا لأننا لا نملك الحق في مقاومة الاحتلال بكل السبل فهذا حق يمنحه لنا القانون الدولي، ولكن منذ أن دخلنا في اتفاق «أوسلو» وأقيمت سلطة فلسطينية على الأرض الفلسطينية تغيرت شروط الكفاح ضد الاحتلال وما عادت الأمور لما كانت عليه قبل «أوسلو». لقد أضحى لدينا كيان معترف به يمثل دولة تحت الاحتلال بصفة عضو مراقب أقرب إلى دولة كاملة العضوية. وبالتالي لم يعد مفيداً لنا بأي حال أن نفشل في إدارة شؤوننا أو نسمح للاحتلال أن يدمر هذا الكيان كما حصل في العام 2002، وكما يحصل اليوم في غزة وفي بعض مناطق الضفة، بحجة وجود مسلحين ومقاومة مسلحة لم تستطع إيذاء الإسرائيليين، وكانت مؤذية لنا بأضعاف كبيرة جداً بالمقارنة مع الخسائر الإسرائيلية.
التفكير في استنباط أو اعتماد وسائل كفاحية تقلل من الخسائر لدينا وتزيد من خسائر إسرائيل السياسية والمعنوية وربما الاقتصادية لاحقاً هو أمر مهم. فنحن من يقرر الوسيلة المناسبة ولا تقودنا الوسيلة ونقوم بتقديسها. والمهمة الأولى لكل الوطنيين الفلسطينيين هي تعزيز صمود المواطن على أرض وطنه. والوسائل الشعبية المتضافرة مع العمل الرسمي على كل المستويات السياسية والدبلوماسية هي الخيار الأنسب في هذه المرحلة. ولنتذكر مرحلة الانتفاضة الأولى في الأعوام 1987 وحتى 1990، كيف استطعنا أن نحقق الاعتراف الدولي بحقوقنا والاعتراف بدولة فلسطين وكيف وقف العالم كله معنا. حتى الإسرائيليون انقسموا على أنفسهم وكانت قطاعات واسعة منهم تؤيد حقوقنا المشروعة، وهذا تبدى في الانتخابات العامة وتشكيل حكومة اسحق رابين. واليوم يتوحد الإسرائيليون بغالبيتهم على ضرورة محاربتنا واستخدام أقصى معدلات القوة ضدنا. وتدعم إسرائيل قوى عظمى ما كانت لتدعمها لو أن وسائلنا الكفاحية سلمية وشعبية. وهذه ربما تكون دعوة الآن لمراجعة ما يجري لدينا في غزة والضفة وخاصة أحداث مخيم جنين.