“بوتين يبدأ في تنفيذ الحلم الروسي داخل أفريقيا” .. هكذا أصبح حال من يتابع الأخبار الواردة من موسكو عقب القمة الأفريقية الروسية، وخصوصا بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اليوم الأربعاء، عن العمل على إعداد اتفاقيات تجارية مع 4 دول عربية في أفريقيا، منوّها إلى ضرورة التركيز على جميع الدول في القارة الأفريقية الضخمة.
وأوضح الزعيم الروسي أن تلك الاتفاقيات تشمل اتفاقية التجارة الحرة مع تلك الدول، وهو إعلان يأتي في وقت تعاني الكثير من دول القارة السمراء من أزمات اقتصادية جراء الحرب الأوكرانية الروسية، وقسوة الدولار على العملات المحلية لتلك الدول.
وهنا يصبح التساؤل المشروع، وهو ما محاور هذا التعاون الاقتصادي المزمع تنفيذه بين روسيا وأفريقيا، وما مجالات التعاون المنتظرة مع القيصر الروسي، وما أهداف موسكو من تلك التحركات، وكيف يؤثر ذلك على علاقات القارة السمراء مع المجتمع الغربي، خصوصا وأن هذا الإعلان يأتي بالتزامن مع تحركات عسكرية في بعض الدول مثل النيجر، وإعلان التخلص من التبعية الغربية، وهو ما حدث مع فرنسا في عدد من دول غرب أفريقيا، وهنا نحاول نرصد تفاصيل هذا الحلم الروسي الأفريقي.
اتفاقية تجارة حرة مع 4 دول على رأسها مصر
ووفقا لما نقلته العديد من وسائل الإعلام الروسية، قال بوتين خلال اجتماعه مع أعضاء الحكومة الروسية اليوم الأربعاء، إننا نعد اتفاقيات حول مناطق تجارة حرة مع مصر والمغرب وتونس والجزائر، جميعها في شمال أفريقيا، وأضاف بوتين موضحا: “هناك الكثير مما يسمى بنقاط التنمية في القارة، وهناك بلدان مثيرة للاهتمام للغاية. لذلك، لا ينبغي بأي حال أن نفوّت مناطق أخرى”.
وكشف بوتين عن بعض تفاصيل هذا الاتفاق، حين الحديث أن تلك الاتفاقات التي يتم الإعداد لها، تشمل اتفاقية التجارة الحرة مع تلك الدول الأربع، ولكن دون الكشف عن تفاصيل أخرى عن جوهر تلك الاتفاقيات، ويبدو أن التحرك في هذا الملف ليس وليد القمة الأفريقية الروسية التي عقدت خلال الأيام الماضية في روسيا، ولكن الإعلان عنها كان باكورة التحركات غير المعلنة في العديد من المجالات بين العديد من دول أفريقيا وروسيا، ويأتي الإعلان لكشف الرؤية النهائية المستهدفة من روسيا في أفريقيا.
التعاون السياسي مع أفريقيا لتعميق التفاعل الاقتصادي
وفي إطار استراتيجية السياسة الواضحة، تحدث بوتين عن أهمية التعاون السياسي مع دول أفريقيا، للمساهمة في نجاح التحركات الاقتصادية، وقال: “القارة كبيرة ومن الواضح وبحسب العديد من الخبراء، أنها ستتطور بشكل إيجابي وستعوض ما فاتها ربما العقود الماضية”.
أشار بوتين إلى أن العلاقات السياسية المبنية على الثقة والصداقة بين روسيا وأفريقيا يجب أن تعمق التعاون الاقتصادي بينهما.
وخلال حديثه صباح اليوم داخل الحكومة الروسية، قال: “رأينا جميعًا معكم أنهم يشعرون بأنهم أصدقاء في روسيا، ونتعامل مع الدول الأفريقية كأصدقاء، ونحن بحاجة إلى تحويل هذا المستوى من الثقة السياسية إلى تعاون اقتصادي”، وهو حديث يكشف ثنائية التحركات الروسية داخل أفريقيا، تعاون اقتصادي من خلال التعاون السياسي.
ولكن .. ما المقصود بمنطقة التجارة الحرة
تشير الاتفاقيات الدولية إلى اتفاق بين دولتين (أو أكثر) على شروط التبادل التجاري بينهما، وبموجب هذه الاتفاقية تقوم الدول بتحديد التعريفات الجمركية والضرائب التي تفرضها على الصادرات والواردات، وتؤثر جميع الاتفاقات التجارية على التجارة الدولية، وهناك ثلاثة أنواع من الاتفاقيات الدولية، يتمثل النوع الأول في الاتفاق أحادي الجانب الذي يحدث عندما تقوم دولة ما بفرض قيود تجارية دون أن تقوم دولة أخرى بفرض قيود مماثلة، ويمكن لدولة ما وفقًا لهذا النوع أن تقوم بتخفيف القيود التجارية، إلا أن هذا أمر نادر الحدوث، لأنه لا يشكل ميزة تنافسية بالنسبة لهذه الدولة.
ويتمثل النوع الثاني في الاتفاقيات الثنائية بين دولتين، حيث تتفق دولتان على تخفيف القيود التجارية مثل خفض الرسوم الجمركية لزيادة الفرص التجارية بينهما، وهي شائعة في صناعات إنتاج السيارات والنفط والأغذية، بينما يتمثل النوع الثالث في الاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف، والتي تكون بين ثلاث دول أو أكثر لذلك فهي أكثر الاتفاقيات صعوبة في التفاوض، وكلما زاد عدد المشاركين بها زادت صعوبتها وتعقيداتها، لأن لكل بلد احتياجاته وطلباته الخاصة، وبمجرد الوصول إلى تفاوض ملائم لجميع الدول، تكون الاتفاقية قوية للغاية وتغطي مساحة جغرافية كبيرة، مما يمثل ميزة تنافسية للمشاركين بها.
4 محاور مهمة لتعاون القارة السمراء مع روسيا
وبحسب تحليل العديد من المراكز البحثية، ونشرتها عدد من الصحف الدولية، تعوّل موسكو على نجاح النسخة الثانية من القمة الروسية الأفريقية بداية تنفيذ حلمها داخل القارة السمراء، وذلك في ضوء إستراتيجية توسيع نفوذها بأفريقيا، وهنا تُثار بالمقابل تساؤلات بشأن ما ينتظره الأفارقة من الشريك الروسي، وهل يستفيدون من التنافس الدولي الراهن؟
وهنا نرصد 4 محاور من المرجح أن تشملها الاتفاقات الروسية مع الدول الأفريقية، والبداية مع الدول الأربعة بشمال أفريقيا.
الغذاء والحبوب..تسعى موسكو إلى طمأنة الدول الأفريقية فيما يخص مسألة الحبوب، وهو ما حدث خلال القمة الروسية الأفريقية، وتكمن أهمية هذا المحور، هو انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب مع أوكرانيا، فهذا الاتفاق الذي انسحبت منه موسكو قبل أيام في كون أوكرانيا وروسيا من أكبر مصدري الحبوب في العالم، وتعتمد دول القارة بشكل كبير على إمدادات البلدين، ويترقب القادة الأفارقة مكاسب في قطاع الغذاء خلال الفترة المقبلة، وبالنظر إلى ما تظهره مؤشرات وإحصاءات التجارة والأعمال الدولية نجد النقاط التالية:
- اعتماد غالبية الدول الأفريقية على واردات القمح الروسي والأوكراني؛ فعلى سبيل المثال يعتمد الصومال وبنين اعتمادا كاملا على البلدين، في حين تستورد مصر ما يزيد على 80% من احتياجاتها منهما، تليها السودان بـ75% ثم الكونغو 69% والسنغال 66%، وفق تقارير.
- بلغت قيمة واردات أفريقيا من القمح الروسي في 2020 حوالي 3 ملايين و500 ألف دولار، وانخفضت في 2021 إلى 3 ملايين و247 ألف دولار، قبل أن تصل في 2022 إلى مليونين و540 ألف دولار.
- مثّلت واردات القمح الأفريقي عالميا في 2020 حوالي 13 مليونا و166 ألف دولار، وفي 2021 حوالي 16 مليونا و178 ألف دولار، وفي 2022 حوالي 18 مليونا و723 ألف دولار.
- أما الذرة، فتشير البيانات إلى أن الصادرات الروسية للعام المنقضي بلغت حوالي 33 ألف دولار، وسط تباين في أسعار بقية الحبوب مقارنة في الأعوام الثلاثة.
الطاقة والأسواق البديلة.. وتمثّل الطاقة مجالا خصبا للتعاون بين الجانبين، فمن جهة تُعد روسيا منتجا رئيسيا للنفط والغاز، ومن جهة أخرى هناك تباين أفريقي بين دول تعاني بشدة في هذا القطاع ودول تزاحم روسيا في سوق الطاقة الدولي خاصة بعد اعتماد الاتحاد الأوروبي على مصادر بديلة للنفط والغاز الروسي، ومع ذلك، لا يزال الأفارقة يراهنون على الاستفادة من المشاريع النفطية الروسية، وتزويدهم بالخبرات التقنية في إنتاج طاقة نووية للأغراض السلمية كما هو الحال مع مصر، وعلى الجانب الروسي، ثمة مساع لإعادة توجيه صادرات النفط والغاز بعد إغلاق السوق الأوروبي، وتعزيز التعاون مع دول بينها الجزائر التي تعد من أبرز مصدري الغاز الطبيعي.
ويبدو أن دول أفريقية استفادت من الضغوط الغربية على روسيا في مجال النفط؛ حيث تُبين أرقام وكالة “ستاندرد آند بورز غلوبال” الاقتصادية الأميركية، أن الصادرات النفطية الروسية لأفريقيا، خاصة المشتقات البترولية المكررة، تضاعفت 14 مرة منذ بداية الحرب الأوكرانية أوائل 2022 وحتى نهاية الربع الأول من هذا العام، وقبل الحرب، تذكر الوكالة أن روسيا كانت تصدر 33 ألف برميل يوميا من المنتجات المكررة إلى أفريقيا ومعظمها بنزين، ولكن بحلول مارس 2023، وصلت إلى 420 ألف برميل يوميا.
الأمن والتسليح..روسيا من أكبر موردي السلاح في المنطقة، وخلال عقد وقعت اتفاقيات تعاون عسكري مع حوالي 19 دولة أفريقية، منها السودان ومالي ونيجيريا، وشملت مقاتلات وصواريخ مضادة للدبابات، وفق تقارير، وتفوّقت روسيا على الصين كأكبر مورّد للأسلحة لأفريقيا جنوب الصحراء بين عامي 2018 و2022، مع بقاء الولايات المتحدة وفرنسا في صدارة الموردين الرئيسيين عالميا وفي عموم أفريقيا، وفق تقرير صدر في أبريل عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” (SIPRI).
ولا يقتصر الوجود الروسي في أفريقيا على صفقات التسليح فحسب، إذ إن لديها مجموعة “فاغنر” التي تقول إنها تعمل على نشر الأمن ومحاربة الإرهاب، وإن وجودها بالقارة مرتبط برغبة الحكومات هناك، وفي المقابل، ينظر مراقبون إلى “فاجنر” باعتبارها تشكيلا من المرتزقة يوفر الأمن لحكام أفارقة مقابل عقود التعدين المربحة، أو مزاحمة النفوذ الأميركي والفرنسي خاصة في دول مثل ليبيا والسودان ومالي وأفريقيا الوسطى.
إنشاء المناطق الصناعية “موسكو الجديدة” ..وهى الرؤية الأكثر عمقا في التعاون المباشر بين روسيا ودول أفريقيا، ونجد أننا نموذج يتم تنفيذه على أرض الواقع داخل الأراضي المصرية، حيث يتم إنشاء ما تطلق عليه الصحافة الروسية موسكو جديدة على أرض الفراعنة، ويعد مشروع إنشاء المنطقة الصناعية الروسية فى مصر فريد من نوعه، حيث أن روسيا لم تقم بمثل هذه المشاريع منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في دول عربية.
وتتطابق مصالح مصر وروسيا فى هذا المجال بشكل كامل، حيث أن القيادة الروسية تأثرت كثيرا بفكرة الوجود المادى فى الأسواق الجديدة، كما أنها تتوقع تحقيق الهدف الرئيسي لاستراتيجيتها الاقتصادية الخارجية وهى زيادة حصة الصادرات غير الأولية فى التجارة الخارجية.
وبدأت المفاوضات المصرية الروسية حول إنشاء المنطقة الصناعية الروسية فى بلاد الأهرامات بعد اجتماع الرئيسيين فلاديمير بوتين وعبد الفتاح السيسي فى سوتشي عام 2014. وفى شهر أغسطس من عام 2017 بدأت المفاوضات الفعلية حول إنشاء المنطقة، ويوفر”المشروع المحوري للتعاون الروسي المصري” الإقامة فى المكاتب شرق بورسعيد أو فروع شركات السيارات والبتروكيماويات والطاقة والدواء ومواد البناء الثقيلة، حيث تعتبر المنطقة الاقتصادية الخاصة فى مصر قاعدة انطلاق توسيع الأعمال التجارية للشركات الروسية في مصر والشرق الأوسط وأفريقيا، حيث ينظر المصريون إلى المنطقة الصناعية الروسية كمشروع رائد فى المنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
وستبلغ استثمارات المنطقة الصناعية الروسية 4.6 مليار دولار، حيث سيطلق عليها اسم “صن سيتي” أى مدينة الشمس وستقام على مساحة ألفى هكتار، حيث تقع المدينة على الساحل المصري للبحر الأبيض المتوسط، بالقرب من قناة السويس، التى من خلالها تمر 20% من التجارة العالمية، وستضاف الروح الروسية لهذه المدينة الصناعية، حيث إنه سيتم بناؤها على شكل نصف دائرة، وستتكون من قسمين: شرقى وسيطلق عليه “موسكو” وغربى سيطلق عليه “سانت بطرسبرج”، والأراضى بين المنطقتين سيتم تسميتها “الأورال”، لأنها تقع فى منطقة وسط روسيا، وستكون هناك منطقة ترفيهية وحديقة مثلثة الشكل ليتمكن سكان هذه المدينة من قضاء وقت فراغهم.