التخادم بين رجال الدين والسلطة..
لفهم العلاقة بين النظم السياسية ورجال الدين (تاريخياً)، ينبغي الرجوع إلى التاريخ القديم، وتحديداً إلى مرحلة ما قبل نشوء الأديان؛ فقد كانت آنذاك طبقة الشاهنامة (السحرة والعرافون) هي المكافئ الموضوعي لطبقة رجال الدين، ففي تلك المجتمعات البدائية نشأ التحالف التاريخي بين الحكم السياسي والحكم الروحي وتوطدت العلاقة الجدلية بينهما على أساس تبادل الأدوار وتبادل المصالح، حين كان الشاهنامة والسحرة يتلاعبون بعقول العامّة، بالتعاويذ والقرابين، مقابل العيش دون عمل، وكان دورهم الوظيفي منح زعيم القبيلة القداسة التي تجعله بمثابة الرب، أو ممثلاً عنه، وبالتالي تسهيل عملية إخضاع العامة لحكمه، وتسهيل اقتيادهم، ودفعهم للحروب، وقبولهم لاستغلالهم ونهب مواردهم وجهودهم وأرواحهم والتحكم في حيواتهم.
بعد نشوء الأديان الأرضية، ومن بعدها السماوية تطورت تلك العلاقة، ولكن أُضيف لرجال الدين دور وظيفي جديد، تجاوز تقديس الحاكم، إلى تقديس كل أفعاله، وتبرير سياساته وإضفاء البعد الديني والروحي عليها، لتكون مقبولة من الشعب. ومع تطور المجتمعات والنظم السياسية تطورت الأديان أيضا، ولكن بقي الدور الوظيفي لطبقة رجال الدين في الإطار ذاته، لكن العلاقة كانت متبادلة، فبالقدر الذي تستفيد منه السلطة من رجال الدين، فإن الدين نفسه سيستفيد، فمن وجهة نظر المتدينين فإن الحق (أو الدين) بمفرده لن يدوم، ولن يكسب، بل ربما يُسحق، وبالتالي يتوجب تسليحه بالقوة؛ أي بالسلطة السياسية.
في اليهودية مثلا وظفت طبقة السنهندرين نفسها لخدمة المستعمر اليوناني، ثم الفارسي، ثم الروماني فقط لتأمين حكم المحمية اليهودية (دويلة الحشمونائيم)، والتي لم يكن لها أن تدوم ثمانية عقود دون هذا التحالف.
في المسيحية القصة متشابهة، فالمسيحية ذاتها انتشرت وصارت ديانة عالمية فقط حين اعتنقها الإمبراطور قسطنطين، بهدف توحيد الإمبراطورية تحت إله واحد ودين واحد وإمبراطور واحد.. والمفارقة أن المسيحية نفسها كانت سبب انقسامها إلى غربية كاثوليكية وشرقية أرثوذوكسية (بيزنطة)، وطوال العصور الوسطى ظلت الكنيسة متحالفة مع الطبقات الحاكمة في عموم القارة الأوروبية، أحيانا تكون هي الحاكم الفعلي وبقوة تفوق قوة الدولة، وأحياناً بتحالف الطرفين، ربما المرة الوحيدة التي كانت فيها الكنيسة خاضعة للدولة حين دخلت المسيحية السويد في القرن العاشر، وحينها بنى الملك «غوستاف فازا» كنيسة ضخمة في أوبسالا، ونصب فوق تلة تبعد عنها مئات الأمتار مدفعاً عملاقاً وقال للكنيسة: ستبقون تحت أمري وسلطاني، وإذا خالفتم أمري فإن المدفع جاهز لدك الكنيسة وتسويتها بالتراب.
حين أتى الإسلام تكاملت السلطتان الزمنية والمكانية في شخص النبي الكريم، وبالتالي يصعب القياس على تلك الفترة، ولكن بمجرد وفاته انقسم الأنصار والمهاجرون على السلطة، وطوال فترات الخلافة الإسلامية منذ الراشدة وحتى العثمانية كانت السلطة السياسية تتكئ وتعتمد على رجال الدين في تمرير سياساتها، وتبرير تجاوزات الحكام والولاة، وفي إخضاع العامة، وبالمثل كانت كل من السلطة وطبقة رجال الدين تمد إحداهما الأخرى بأسباب الحياة والبقاء والتمدد.
وحتى في إطار الدين نفسه، فقد نشأت الفرق والمذاهب والطوائف، وتصارعت فيما بينها، وكانت كل فئة تستخدم فقهاءها وخطابها الديني وفتاواها وتأويلها الخاص للآيات القرآنية والنص الديني كقوة إعلامية وحجة دينية في مواجهة خصومها، وكان هذا أيضاً مسوغاً لنشوء التيارات والأحزاب الإسلامية التي حددت هدفها بوضوح «الوصول إلى السلطة وسدة الحكم»، أو تقاسم السلطة مع الدولة في حالات معينة.
قد يعترض البعض على هذا الطرح، بذريعة أنه لا يوجد كهنوت في الإسلام، ولا يوجد «رجال دين».. لكن هذا غير دقيق، فقد كان في كل مراحل التاريخ وحتى الآن أشخاص متفرغون لقضايا الدين، لديهم زيهم الخاص والمميز، وقد تلقوا علومهم من المعاهد والكليات الدينية، ويتقاضون أجرهم مقابل ذلك.. وحتى لو تجاوزنا هذه الشكليات، فإن العقل الإسلاموي يقر ويصرح بأن لا يجوز الفتوى والتحدث باسم الدين أو عنه إلا من قبل هؤلاء. سواء من يتبعون المؤسسات الرسمية، أو يتبعون أحزاباً إسلامية، أو يمثلون طائفة ما، أو حتى متطوعون؛ وهذا بحد ذاته كهنوت من ناحية فعلية.
في واقع الأمر كل الأنظمة العربية تحالفت مع رجال الدين، ووظفت الخطاب الديني لأغراضها السياسية، وفي المقابل استفاد هؤلاء من وجودهم في كنف السلطة، وفي حالات أخرى عديدة قد يتحارب طرف إسلامي مع آخر أو مع السلطة ضمن صراع سياسي أو على السلطة، أو للهيمنة على المجتمع، مستخدماً الخطاب الديني لأدلجة وتسويغ وتسويق نفسه أمام الجماهير.
في الحالات التي يعترض فيها أي حزب إسلامي على السلطة الحاكمة فإنه بداية يخوض حرباً إعلامية على رجال الدين المحيطين بالسلطة، ويتهمهم بأنهم وعاظ السلاطين.
وأيضاً في الحالات التي ينتقد فيها رجل الدين أي حزب إسلامي، أو لا يمشي على هواهم، فتهمته جاهزة: «وعاظ السلاطين»، مع إنه يستخدم الخطاب الديني، وأدواته ومرجعياته الفقهية.
وفي المقابل، إذا شكّلت أي جماعة دينية تهديداً للسلطة، أو أضرت بمصالحها فإنها ستحاربها بلا هوادة، وستستخدم رجال الدين لتلك المهمة، وستكون التهم جاهزة: «فئة ضالة»، «جماعة مارقة»، «خارجون عن الدين».
انظر مثلاً كيف استخدمت السعودية «هيئة الأمر بالمعروف»، وانظر تقلبات معظم المشايخ هناك.. وانظر أيضا الخلافات الحادة حول شخصيات دينية مثل سيد قطب، الذهبي، القرضاوي، البوطي، العريفي.. وعشرات المشايخ المقربين من السلطات ونظرائهم من منظري الأحزاب والمعارضة، وربما آخر خلاف ظهر كان حول تصريحات الشيخ عثمان الخميس.