التعليم والقطاع الخاص؛ تباعد أم تقارب؟
أثير- د. رجب بن علي العويسي، خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية في مجلس الدولة
يثير موضوع العلاقة بين التعليم والقطاع الخاص، وربط مخرجات التعليم بمتطلبات سوق العمل، تساؤلات عدة واستفسارات متنوعة تشوبها علامات التعجب والاستغراب والإنكار تارة، والقناعة بأن ما أنجز على المستوى المؤسسي هو الحد المقبول وأن ما يتم في هذا الموضوع من ممارسة كاف تارة أخرى، في ظل عمل ما زال لم يتحول من مرحلة الاجتهاد الفردي المؤسسي، وفي هذا الإطار تظهر على السطح مجموعة من النقاط التي يفترض أن تكون بمثابة المدخل عند التطرق لموضوع المواءمة والإجابة عن التساؤلات التي طالما تتكرر على ألسنة القائمين على مؤسسات التعليم أو حتى توصيات البحوث والدراسات والتي لم تستطع إلى اللحظة إيجاد معالجة متوازنة واقعية مستدامة في الخروج من أزمة عدم المواءمة والوصول إلى مرحلة المواءمة المنشودة، فما الذي يريده القطاع الخاص من التعليم؟، وهل لدى القطاع الخاص منظومة كفايات محددة يطلب من التعليم العمل بها؟ هذا في مقابل الأسئلة التي تتردد على ألسنة القائمين على القطاع الخاص بأن مخرجات التعليم غير قادرة على تلبية طموحات القطاع الخاص وتتسم بالجمود وعدم القدرة على التفاعل مع مستجداته، في حين أن الإجابة عن هذا التساؤل الأخير تكمن في السؤالين المطروحين سابقا؟
هذه التساؤلات وغيرها تتكرر وتعاد صياغتها بأساليب مختلفة لكنها تتمحور حول فكرة واحدة تشير بوضوح إلى أن الجميع (التعليم والقطاع الخاص وسوق العمل) يفتقدون إلى مؤشرات دقيقة واضحة في رصد فعل المواءمة، وفي فهم متطلباتها، وفي قياس نواتج تحققها من عدمه والسبب في ذلك يكمن في أن القراءات كلها إنما تعطي مؤشرات تقريبية، وليست احتياجات دقيقة مشفوعة بالأرقام والإحصاءات، لتصل هذه النقاشات إلى حد الجدال والمغالطات وإلقاء اللوم والتهم على الآخر دون أن يكون في أولويتها إيجاد مخرج من أزمة الثقة، أو الوصول إلى رؤية مشتركة تجمع جميع الأطراف ذات العلاقة على طاولة واحدة يتداول فيها الحديث عن كل حيثيات الموضوع للوصول إلى حلول أو بارقة أمل بحيث يخرج خلالها الموضوع إلى حيز الفعل الوطني المشترك المستفيد من كل الفرص المتاحة والدعم الحكومي المعزز بالإرادة السامية لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، ومتابعته الشخصية لملفات التوظيف والتشغيل من خلال البرنامج الوطني للتشغيل أو كذلك رؤيته المستقبلية للتعليم والمواءمة والتعليم التقني والمهني والتنويع في المسارات وإعادة هيكلة التعليم والاقتصاد لضمان الوصول إلى تحقيق أولويات رؤية عمان 2040؛ ومن ذلك التوجيهات السامية في الخامس عشر من يونيو 2021 بـ “ضرورة الإسراع في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتحليل الاحتياجات والمتطلبات الضرورية لتطبيق التعليم التقني والمهني في التعليم ما بعد الأساسي بما يتوافق مع متطلبات سوق العمل واحتياجاته المستقبلية، وأهمية تبني منهجية متكاملة لآلية تطبيق ذلك وتحديد الخبرات والموارد البشرية اللازمة في هذا الشأن”؛ ليؤدي التعليم دوره بكل احترافية في الحفاظ على الثوابت والقيم والهوية والمبادئ والأولويات، وأن يشكل خيوط ممتدة مع المستقبل في سبيل تعزيز حضور الاقتصاديات الواعدة، والتوسع في مشروعات التنويع الاقتصادي وتقييم احتياجات سوق العمل ووظائف المستقبل في المجتمع الوظيفي القادم.
من هنا تأتي أهمية البعد التكاملي والشمولي عند أي معالجة تتناول موضوع المواءمة، بحيث تضع في أجندتها القدرة على الإجابة عن كل التساؤلات المطروحة من قبل كل الأطراف، مشفوعة بالمعايير والمؤشرات والخطط والبرامج والأدلة ونواتج العمل والإحصائيات والأرقام والتي سوف تضع أطراف العمل الثلاثة في مرحلة تحول جديدة تتطلب منها المزيد من التنسيق والتكامل والتفاعل والترابط وإيجاد أدوات قياس محددة وواضحة ومعايير أداء مقننة وإطار عمل محدد في إطار وطني يستشرف مستقبل المواءمة التعليمية ويضع مؤسسات التعليم العالي والتعليم المدرسي والقطاع الخاص الذي يمثل سوق العمل أمام مراجعة شاملة لكل السياسات والخطط والبرامج ليست فقط على مستوى مؤسسات التعليم من حيث التخصصات والتنويع في المسارات ووظائف المستقبل والمهارات الناعمة والرقمية وغيرها، بل أيضا على مستوى منظومة الاقتصاد الوطني بما في ذلك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والشركات والمدن الاقتصادية ورجال الأعمال والقطاع الخاص بسلطنة عمان ليصل إلى مرحلة تتأكد فيها قدرة القطاع الخاص ومؤسسات العمل على كسب ثقة الشباب العماني، وجدية القطاع الخاص في الاعتراف بالكفاءة العمانية والخبرات الوطنية ومنع مبررات موجة التسريح للكفاءات العمانية من القطاع الخاص، وإحداث تحول جذري في تحسين بيئة العمل بالقطاع الخاص لتكون بيئة جاذبة منتجة قادرة على صناعة الفارق، من حيث الرواتب والأجور والمكافآت وبيئة العمل واحترام الكفاءة، الأمر الذي سينعكس إيجابا على ثقة الحكومة بقدرة القطاع الخاص على الوفاء بتعهداته والالتزام بمسؤولياته التي تطلبتها مراحل التنمية باعتباره الشريك للحكومة في أحداث التحول النوعي.
وعلى هذا فإن بناء مسار واضح للقضية يخرج موضوع المواءمة من أروقة المجادلات والمناقشات القاصرة، ومرحلة الاتهام وإثبات الذات وإنكار جهود الآخرين بحاجة اليوم وفي ظل قاسم الرؤية المشترك إلى صناعة احتواء وطني للقضية، بحيث يطرح موضوع العلاقة بين التعليم والقطاع الخاص ومسؤولية كل منهما، ماذا يريد التعليم من القطاع الخاص ومؤسسات العمل والشركات؟ وماذا تريد الشركات ومؤسسات والقطاع الخاص من التعليم؟، بهدف توحيد الجهود وتعظيم الالتزام بالوصول إلى التوقعات وفق سياق وطني واضح المعالم محدد الأهداف يرتب على توصياته ونتائج مختبراته العملية قرارات نافذة سواء من خلال ندوات ولقاءات نوعية وحوارات متخصصة تجمع القائمين على هذه المؤسسات بهدف الوصول إلى رؤية موحدة تعالج موضوع المواءمة في إطار السياسة العامة للدولة وتضع مؤسسات التعليم أمام واقع فعلي يعزز من مسؤولياتها في المراجعة الشاملة لسياستها وخططها وبرامجها بما يقرب صلتها من تحقيق رؤية المواءمة المطلوبة، ويضع مؤسسات القطاع الخاص أمام مسؤوليتها الحقيقية التي تتجاوز تكهناتها في ما يقدمه التعليم من مخرجات وانطباعها القاصر عن الإثبات بالدليل والشواهد، وبالتالي دعوتها في مراجعة شاملة أيضا لسياستها وخطط وبرامجها وتشريعاتها والتزاماتها وقدرتها على احتواء الكفاءات الوطنية.
أخيرا نعتقد بأن ما طرحته رؤية عمان 2040 من مرتكزات إستراتيجية لإطار العمل الوطني فيما يتعلق بالغايات الوطنية “مجتمع إنسانه مبدع معتز بهويته، مبتكر ومنافس عالميا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام”؛ “واقتصاد بنيته تنافسية منتج ومتنوع، يقوم على الابتكار وتكامل الأدوار وتكافؤ الفرص، يسيّره القطاع الخاص، ويحقق تنمية شاملة مستدامة”؛ يمثل قاسمًا مشتركًا ومحطة التقاء ومساحة اتصال داعمة لصناعة الفارق وتحقيق التحول، وإيجاد نماذج عمل مشتركة تبرز مسار المواءمة والتكامل بين مختلف المنظومات والقطاعات الوطنية، وهي بين منظومتي التعليم والاقتصاد أكثر ترابطا وانسجاما، إذ لا يمكن أن يتصور وجود اقتصاد قوي بمواصفات عالمية قائمة على مبادئ الحوكمة والتنوع والمرونة والديناميكية، وهو يفتقر للكفاءة البشرية المعدة والمؤهلة والتي تمتلك المهارات والقدرات الداعمة لأصالة الإنتاج، كما لا يمكن أن يكون للتعليم حضوره في المجتمع وتأثيره في تحقيق التنمية الوطنية بدون أن يكون له إسهاماته الاقتصادية في تحقيق الإنتاجية ورسم حس التغيير في الكفاءة، وفي المقابل لا يتوقع تحقيق مسار الاستدامة والتنوع في الاقتصاد وتعميق مفاهيم الاستثمار والريادة والعمل الحر إلا في ظل بيئة عمل منافسة و”منظومة وطنية فاعلة للبحث العلمي والإبداع والابتكار تسهم في بناء اقتصاد المعرفة ومجتمعها” و”كفاءات وطنية ذات قدرات ومهارات ديناميكية منافسة محليا وعالميا، فإن ما أشار إليه تقرير اللجنة الدولية لتطوير التعليم من مهارات أربع ومن بينها “التعليم للعمل” إنما يمهد لمرحلة التفاعلية في البناء المؤسسي ويؤصل لثقافة التكامل وتقاسم المسؤوليات بين المؤسسات في إعداد متعلم يمتلك قيم العمل ومهارات الاقتصاد ويتعامل مع خطوط الإنتاج بجودة وكفاءة عالية.