من يقرأ ما كُتب حول “السابع من أكتوبر” بأقلام المفكرين والكتّاب والمحللين في الداخل والخارج، سيلحظ تباينات واسعة وتناقضات لافتة في تقييم الحدث وآثاره. فهناك من يرى فيما جرى تحولًا إستراتيجيًا في مسار الصراع، ومنهم من يعتبره خطأً كارثيًا جرّ على غزة ما لم تحتمله قدرة بشرية. وبين طرفي الجدل يقف صوت ثالث يحاول أن يرى المشهد بلا انفعال، مدركًا أن الحقيقة –في النهاية– ليست ملكًا لطرف واحد.

فالتيار المؤيّد يرى أن السابع من أكتوبر أعاد القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام العالمي، وكشف الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني. يقول الأكاديمي د. سامر خليل: “لقد اهتزّ اليقين الصهيوني لأول مرة منذ عقود، واستعاد الفلسطيني شيئًا من زمام المبادرة.” ويرى الكاتب الفلسطيني في الشتات أ. رائد عواد أن العملية كانت “لحظة كسر للصمت العالمي”، مضيفًا: “لولا طوفان الأقصى، لما خرجت الملايين في العواصم الغربية تفضح الإبادة الإسرائيلية.”

وبالنسبة لهؤلاء، فإن موجة التضامن الدولي، والقرارات المتسارعة التي اتخذتها دول غربية وازنة للاعتراف بالدولة الفلسطينية أو تقييد التعاون العسكري مع إسرائيل، تؤكد أن تحوّلًا ملموسًا قد حدث. كما أنهم ينظرون إلى صمود المقاومة في وجه آلة الحرب الإسرائيلية لأكثر من سنتين باعتباره دليلًا على تغيّر موازين القوة ولو جزئيًا.

في المقابل، يقف التيار المنتقد ليحمّل حماس مسؤولية ما جرى، معتبرًا أن السابع من أكتوبر منح اليمين الإسرائيلي الذريعة المثالية لشن حرب إبادة ضد غزة. يقول المفكر الفلسطيني د. عدنان دحبور: “لقد دُفعت غزة إلى حرب غير متكافئة، ووجد المدنيون أنفسهم وقودًا لمعركة لم تُحسب كلفتها.” أما المحللة السياسية د. منى عبد الرازق فترى أن التداعيات الإنسانية والسياسية كانت “هائلة ولا يمكن تبريرها”، مضيفة: “ما حدث أعاد القطاع سنوات إلى الوراء، وترَك الناس بلا بيوت ولا أفق سياسي.”

ويذكّر أصحاب هذا الاتجاه بأن القطاع تحوّل إلى ركام، وأن آلاف الجثث ما زالت تحت الأنقاض، وأن البنى السكنية والخدمية والصحية والتعليمية دُمّرت بصورة غير مسبوقة، فيما فُرض على أكثر من مليوني إنسان نزوح قاسٍ أفقدهم الأمان والكرامة. وينتقد هؤلاء ما يرونه “تهورًا استراتيجيًا” أغفل موازين القوة وقدرة الاحتلال على ارتكاب مجازر بلا حساب.

وما يزيد المشهد تعقيدًا أن وسائل الإعلام المرئية العربية أصبحت ساحات لتدوير هذه السجالات، كلٌّ وفق أجندته ومصالح الجهة الداعمة له، فينعكس ذلك طبيعيًا على نوعية الضيوف، وبالتالي على الرواية المقدّمة للجمهور. وبينما تميل بعض الفضائيات إلى خطاب البطولة والصمود، تنحاز أخرى إلى خطاب المسؤولية والكلفة والمآلات، دون أن يقترب أي منهما من عرض الصورة الكاملة.

وبين الطرفين، يبرز صوت ثالث يحاول الجمع بين القراءتين دون الوقوع في فخ التبرير أو الشماتة. يقول الصحافي الفلسطيني أ. ليث ناصر: “ما بين من يفاخر ومن يتهم، تضيع الحقيقة؛ فالعملية كشفت هشاشة المشروع الصهيوني، لكنها جرّت قطاع غزة إلى مأساة لا يمكن تجاهلها.” ويوضح أن الحكم النهائي لا يمكن أن يصدر قبل اتضاح صورة “اليوم التالي” وترتيباته، سواء من حيث بقاء الاحتلال أو فرض وصاية دولية أو نشوء واقع سياسي مختلف تمامًا.

باختصار، ستظل الكلمة الفصل معلّقة، وسيأتي جيل من أبناء هذه النكبة الثانية ليعيد قراءة ما نكتبه اليوم، وقد يرى فيه كثيرًا من الانفعال أو القصور أو العجز عن رؤية المآلات. فكل جيل يكتب تاريخه من موقع تجربته، لا من موقع أمنياته.

شاركها.