السلام بالإخضاع.. سما الإخبارية
قبل ما يقرب القرن تقريباً، كتب زئيف جابوتنسكي، المفكر الصهيوني ومؤسس منظمة الدفاع الذاتي اليهودية مقالة «الجدار الحديدي: نحن والعرب» قال فيها بأن التاريخ يقول بأن «أصحاب الأرض الحقيقيين سواء كانوا متحضرين أو متوحشين سيقاومون مصادرة أراضيهم حتى لو تم وعدهم بالمساواة في الحقوق» وهذا يعني أن الحل «لبناء دولة يهودية على أرض فلسطين» هو أن تقوم الحركة الصهيونية بإجبار «العرب بالقوة على التخلي عن وهم منع المشروع الصهيوني من خلال بناء واقع لا يُمكن تغيره، ما يجبر العرب على التعامل مع وجود الدولة اليهودية كحقيقة دائمة.»
جابوتنسكي، استخدم تعبير «الجدار الحديدي» كاستعارة سياسية للدعوة الى إنشاء قوة يهودية عسكرية لا يمكن قهرها تقوم وبسبب من قوتها المطلقة بعقد «السلام الذي تريد» مع أعدائها لأنهم اقتنعوا بأن هذه القوة لا يُمكن تدميرها. بمعنى آخر، السلام مع العرب يأتي ليس بناء على تسويات أخلاقية وتنازلات متبادلة، بل بعد كسر إرادة العرب على المقاومة ومن موقع القوة.
تاريخياً، جميع زعماء وقادة الحركة الصهيونية تأثروا بأفكار جابوتنسكي وانطلقوا في بناء عقيدتهم العسكرية من واقع أفكاره: من حقيقة أن العرب لن يقبلوا طواعية قيام دولة يهودية، لذلك عليهم بناء جدار حديدي من القوة العسكرية لا يمكن كسره، لذلك تم إعطاء قيمة كبيرة للردع العسكري، والضربات الاستباقية، وللاستثمارات الضخمة في مجالات التكنولوجيا العسكرية الهجومية والدفاعية، وفي الحصول على السلاح النووي.
لقد حققت عقيدة «الجدار الحديدي» غايتها: مصر والأردن والإمارات العربية والعديد من الدول العربية الأخرى بمن فيهم الفلسطينيون قبلوا بالسلام مع دولة الاحتلال وبشروطها. لكن السلام لم يتحقق لا لدولة الاحتلال ولا للفلسطينيين، لماذا؟ لأن شيئاً ما تغير.
على عكس جابوتنسكي الذي كان يريد دولة أكثريتها يهود وهو لم يعارض وجود أقلية عربية داخلها، شريطة قبولهم بواقع هيمنة الأغلبية اليهودية، وبأن هذا الواقع لن يتغير، رأى زعماء الحركة الصهيونية منذ اعتلاء نتنياهو الحكم في إسرائيل في آذار العام 2009 أن لا ضرورة للسلام مع العرب، وأن السلام الوحيد المرغوب به مع العرب هو السلام القائم على «الاخضاع».
في نظر نتنياهو، دولة الاحتلال لا تحتاج لإجراء مفاوضات او تسويات مع العرب، حتى لو كانت هي القوة «الغالبة» وأنها هي من سيملي الشروط الأمنية على العرب مقابل تنازلات محدودة لهم. ولكن دولة الاحتلال يمكنها أن تأخذ ما تريد وأن تفرض على العرب أن يتعاملوا مع نتائج ما تأخذه وبالقوة العسكرية المجردة.
اليوم تعتقد دولة الاحتلال أن الصراع على الضفة الغربية قد حُسِم، فهي يمكنها الاستيطان في أي مكان تريد، وأن مناطق «جيم» على الأقل قد أصبحت غير خاضعة للمساومة مع الفلسطينيين، وأن المشكلة الوحيدة بالنسبة لها هي في كيفية التعامل مع وجود أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني في مناطق «ألف وباء». هل تهجّرهم قسراً؟ هل تقبل بسلطة فلسطينية واحدة لإدارتهم دون تهجير؟ هل من الأفضل لها وجود أكثر من سلطة لإدارتهم، مثلاً واحدة للخليل وواحدة لرام الله وهكذا؟ هل من الأفضل تسليمهم للأردن لإدارتهم؟
هذا هو جوهر النقاش داخل إسرائيل الآن بشأن الضفة. لا مساومات أو تسويات، بل إخضاع وبالقوة، والعرب (فلسطينيين ودولاً عربية) عليهم القبول بذلك.
أما غزة، فهي وبعد أكثر من سنة ونصف من الإبادة المتواصلة قد حسمت أمرها: من بقي على قيد الحياة فيها لا مكان له لبناء حياة فيها، وسيتم إيجاد الوسائل وبدعم أميركي لتهجيره، ومن سيبقى سيكون خاضعاً لسلطة تقرر هي شكلها وصلاحياتها، إذا ما تمكنت بالطبع من القضاء على جيوب المقاومة في غزة.
وما يجري في الضفة وغزة، يتم نقله بالحرف الى لبنان وسورية. في لبنان تستمر دولة الاحتلال رغم اتفاق وقف إطلاق النار ورغم التزام حزب الله به، بعمليات القصف والاغتيالات. وبإسناد أميركي كامل، تستمر في منع إعادة الاعمار، وفي وضع القيود على ما يجب أن يدخل لبنان عبر المطار او الميناء، وتمارس ضغوطاً ستتعاظم في الأشهر المقبلة على الحكومة اللبنانية للصدام مع حزب الله لسحب سلاحه في خطوة ستسبق اتفاق «سلام» مع الحكومة اللبنانية تقوم فيها الحكومة اللبنانية بتأمين حدود دولة الاحتلال الشمالية.
أما في سورية وبوجود حكومة تحاول الحصول على الشرعية الدولية، أو لنقل، تحاول الحصول على رضا الغرب من أجل فك الحصار الاقتصادي عنها، فإن عملية إخضاعها وتطويعها للقبول أولاً بأن الجولان هي أرض إسرائيلية، وثانياً، بأن كامل الجنوب السوري هو منطقة منزوعة السلاح، هي عملية مستمرة وتأخذ العديد من الأشكال التي تستهدف تفكيك سورية كوحدة جغرافية، بما في ذلك دعم المكون الدرزي والكردي فيها للإدارة الذاتية.
دولة الاحتلال فعلياً انتقلت من عقيدة «الجدار الحديدي» التي كانت ترى أن السلام مع العرب مستحيل قبل وصولهم الى حقيقة أن إسرائيل دولة لا يُمكن هزيمتها، وأن الأفضل لهم هو التعايش معها من خلال تقديم التنازلات لها، الى عقيدة «السلام بالإخضاع»: إسرائيل تأخذ ما تريد، وعلى العرب أن يتكيفوا مع ذلك، وأن يقوموا بحمايتها أيضاً حتى لا تأخذ منهم أكثر.
ما كان يمكن بالطبع الوصول الى هذا «الهوان والذل» لو لم يسمح العرب لدولة الاحتلال بارتكاب الإبادة في فلسطين ولبنان وهم يتفرجون. البعض يريد تحميل السابع من أكتوبر المسؤولية، لكن ما قيمة الحديث عن «المسؤولية» عندما يكون الموضوع هو النتائج الكارثية الناتجة ليس عن الفعل الذي تم يوم السابع من أكتوبر، بل عن عدم الفعل لمنع هذه النتائج التي نشاهدها اليوم؟