لم تعد وسائل التواصل الإجتماعي مجرّد وسيلة للترفيه أو تبادل للصور والمعلومات، بل أصبحت – شاء من شاء وأبى من أبى – قوة مؤثرة تغيّر شكل حياتنا الإجتماعية وتعيد تشكيل مفاهيمنا الأسرية، وبالأخص في بنية العلاقة الزوجية. فقد فرضت هذه الوسائل إيقاعاً جديداً للحياة اليومية، وطبيعة العلاقات الإنسانية، بسرعة تفوق قدرتنا على التأقلم معها. وفي خضم هذا التحوّل الهائل، برزت آثار إجتماعية عميقة ومقلقة، باتت تنعكس بوضوح على بنيتنا الأسرية، فازدادت حالات التفكك، وإرتفعت نسب الطلاق، وتهددت خصوصية العلاقة الزوجية بشكل غير مسبوق. وما كان يُفترض أن يُقرّب المسافات بيننا، أصبح في كثير من الأحيان سبباً في التباعد، وفي خلق فجوات عاطفية عميقة تهدد إستقرار الأسرة وتماسكها.

لقد غيّرت هذه الوسائل نمط يومنا، وعمّقت حضور العالم الإفتراضي على حساب علاقاتنا الواقعية. وما بين تغريدة ومنشور وإعجاب وتعليق، تتآكل مع الوقت الروابط التي كان يُفترض أن تُبنى على الحوار، والثقة، والمشاركة الفعلية الحقيقية. ونتيجة لهذا التحوّل، لم يعد من المستغرب أن نرى إرتفاعاً في نسب الطلاق، وتفككاً في الأسر، وتدهوراً في مفهوم الخصوصية بين الأزواج.

من وجهة نظري، ما نشهده اليوم ليس “تطوراً طبيعياً” في وسائل التواصل، بل هو إنحراف في طريقة إستخدامها. وهذا الإنحراف لا يؤثر فقط على الأفراد، بل يُهدد نسيج المجتمع ككل. فهل نحن مستعدون لمواجهة هذه الحقيقة؟ وهل لدينا الشجاعة لمراجعة أنفسنا، ومساءلة عاداتنا وسلوكياتنا قبل فوات الأوان؟

نحن نعيش اليوم في زمن مقلوب. زمن تُقاس فيه قيمة العلاقة بعدد الصور المنشورة، ودفء المشاعر بعدد “اللايكات”، ومتانة الزواج بعدد رسائل التهنئة في المناسبات. وفي خضم هذا الزيف الرقمي، يتآكل شيء حقيقي وجوهري:  إنها العلاقة الزوجية، التي تقوم في أصلها على الحوار، والخصوصية، والثقة المتبادلة.

وسائل التواصل ليست شيطاناً بحد ذاتها، لكن طريقة إستخدامها الخاطئة هي ما يجعلها خطراً حقيقياً على العلاقات الزوجية. فحين يصبح أحد الزوجين غارقاً طوال اليوم في متابعة المحتوى، والتفاعل مع الآخرين، ومقارنة حياته بما يراه في حسابات المستخدمين، فإن ذلك يخلق فراغاً عاطفياً لدى الطرف الآخر، ويزرع بذور الشك والخذلان، وربما الشعور بعدم الرضا والكفاية.

والأخطر من ذلك هو وهم “البدائل”. فبكبسة زر، يستطيع أحد الزوجين أن يتواصل مع مئات الأشخاص من الجنس الآخر، يتلقى إعجاباً وثناءً وهمياً، مما يُغذّي أنانيته، ويجعله أقل صبراً على واقعه، وأقل إستعداداً لبذل الجهد في إصلاح علاقته الحقيقية.

لقد تحولت هذه المنصات إلى مسرح كبير، الكل يريد أن يظهر فيه بصورة مثالية، حتى لو كانت علاقته في الواقع منهكة أو متصدعة. والمحصّلة؟ شعور مستمر بعدم الرضا، وسباق غير واقعي نحو “زواج مثالي” لا وجود له خارج الشاشة.

أكاد لا أبالغ حين أقول إن الشاشات الذكية – بما تحمله من إشعارات، وتطبيقات، و”قصص” – قد تغلبت على الحوار الصادق بين الزوجين. أصبحنا نعيش في منازل تجمعنا مادياً وتفرقنا ذهنياً، حيث يقبع كل فرد في ركنه منشغلاً بعالم إفتراضي قد لا يحمل له أي دفء حقيقي، بينما يضيع التواصل الحقيقي بين أفراد الأسرة.

ما يدعو للقلق أكثر هو ما نشهده من إزدياد حالات الشك، وإنعدام الثقة بين الأزواج، بسبب “تعليق” عابر أو “إعجاب” غامض، أو محادثات تُخفي أكثر مما تُظهر. كم من علاقة إنتهت بسبب سوء فهم نشأ من تفاعل رقمي عابر؟ وكم من بيت تهدّم بسبب مقارنة ظالمة بين الواقع وما يُعرض من وهم في منصات التواصل هذة ؟

إن الإدمان على السوشيال ميديا لا يقتصر على تضييع الوقت فحسب، بل يؤثر في عمق العلاقة الأسرية. حين ينشغل أحد الزوجين – أو كلاهما – بهاتفه أكثر مما ينشغل بوجوه أحبّته، ومن هنا فإن العلاقة تدخل مرحلة الخطر. والأسوأ من ذلك، حين تُنشر تفاصيل الحياة الزوجية على العلن، فيصبح الجمهور طرفاً غير معلن في علاقة يُفترض أن تبقى خاصة ومقدّسة.

أنا لا أدعو إلى القطيعة مع التكنولوجيا، لكنني أدعو إلى وقفة وعي. أدعو إلى أن نعيد النظر في كيفية تعاملنا مع هذه الوسائل داخل بيت الزوجية. أن نضع حدوداً تحمي خصوصية العلاقة، وأن نُدرك أن التواصل الرقمي لا يُغني أبداً عن دفء الحديث المباشر، ولمسة اليد، ونظرة العين التي لا تحتاج إلى “فلتر” لتكون صادقة.

الأسرة اليوم بحاجة إلى وقت حقيقي، وليس “أونلاين”. بحاجة إلى مشاركة مشاعر، وليس صور. إلى حوار، وليس رموز تعبيرية “إيموشن”. الأسرة هي نواة المجتمع، وإذا إختلت علاقاتنا داخل بيوتنا، فكل ما خارجها حتماً سينهار. لذلك، فإن إعادة بناء ثقافة التواصل الحقيقي، وتقدير الخصوصية، وتفعيل الحوار بين الزوجين، أمور لا تحتمل التأجيل.

لسنا بحاجة إلى حملات دعائية ضخمة بقدر حاجتنا إلى صحوة ضمير، تبدأ من لحظة إغلاق الشاشة، والنظر في أعين من نحب. وسائل التواصل الاجتماعي ليست السبب في خراب البيوت، لكنها قد تكون “الفتيل” إذا غاب الوعي. فهل نمتلك الشجاعة لإطفاء الشاشة أحياناً، والعودة إلى الإنسان القريب منّا… شريك الحياة؟

شاركها.