إذا كنّا نعيش حالة مخاض صعب لولادة الشرق الأوسط الجديد، حيث الحرائق لا تزال مشتعلةً في جغرافياتٍ عديدة منه، فإن أسئلة كثيرة لا تزال مطروحة بلا إجابات واضحة حولها.
ذلك بفعل النتائج الملتبسة لحرب الاثني عشر يوماً وكذلك عدم الحسم على الجزء اللبناني من الجبهة الشمالية، وتعثر الجهود لإنهاء الحرب على غزة، حتى لو أُنجزت صفقة ويتكوف المعدلة قطرياً.
هنالك أجندتان بشأن الشرق الأوسط الجديد، هما السعودية والإسرائيلية، وبينهما أميركا التي تعمل على التوفيق بينهما.
منذ بدايات العمل الأميركي والدولي لتوليد الشرق الأوسط الجديد باعتماد مسار أبراهام التطبيعي كأحد أهم مرتكزاته، ظهرت القضية الفلسطينية كالعائق الرئيس المتبقي على إتمام مسيرته، حيث السعودية وشروطها الحاسمة.. «لا تطبيع دون تحقيق مسار سياسي يفضي إلى حل الدولتين» والمعني هنا بداهة هي الدولة التي لم تقم بعد.
الأجندة السعودية بشأن الشرق الأوسط الجديد، تعززت بما هو قريب من الإجماع الدولي على أساسية حل القضية الفلسطينية، لإخماد المفاعل الأكثر نشاطاً في إنتاج الحروب.
كذلك نجحت الدبلوماسية السعودية في إقامة شبكة علاقات متوازنة مع الدول الفاعلة في العالم، ما أهّلها لأن تكون وسيطاً من موقع الشريك، في تسوية القضايا الشائكة، ليس فقط داخل بيئتها الشرق أوسطية وإنما في المسألة الأوكرانية وغيرها.
وقد لوحظ فتور في الاندفاعة الإسرائيلية القديمة بشأن التطبيع الأهم مع المملكة، ومرده ما تعتبره إسرائيل ثمناً باهظاً يتعين عليها دفعه لقاء التطبيع السعودي، وهي غير جاهزة لدفع هذا الثمن حتى لو فكرت فيه، وذلك بفعل الصراع الداخلي فيها حول هذه النقطة بالذات، خصوصاً أن الائتلاف الحاكم صاحب القرار بهذا الشأن لا بد أن ينهار، إذا ما تقدمت الحكومة الحالية ولو بخطواتٍ متواضعة نحو تسويةٍ مع الفلسطينيين فيها إشارة لمفردة دولة.
إضافة إلى أن قراءة الائتلاف الحاكم لمغزى وجود ترامب في البيت الأبيض بلغ من الشطط والمبالغة في التقدير، كما لو أن الرجل جاء إلى سدة الرئاسة لتطبيق صفقة القرن التي تجاوزتها الأحداث ولم تعد صالحة للتداول إذ سقطت مع سقوط صاحبها في الانتخابات الثانية.
ترامب في زمن صفقة القرن، ليس هو نفسه في زمن حروب الشرق الأوسط الراهنة وحرب أوكرانيا. في ولايته الأولى كان العالم هادئاً بالقياس لما هو عليه الآن، وفي الولاية الثانية ألزم نفسه بإنهاء الحروب جميعاً، حتى أنه عمل بكل استطاعته على تجنب الدخول المباشر فيها، وحتى حين قام بضرب المنشآت النووية الإيرانية بعد اثني عشر يوماً من حربٍ ادعت إسرائيل أنها قامت بها على عاتقها، ظهر اختلافٌ جوهري بين الأجندة الإسرائيلية والأجندة الأميركية، من حيث الأهداف وأولوياتها.
بعد ضرب المنشآت النووية الإيرانية بسلاح وعتاد لا تملك مثله إسرائيل، تراجعت مكانتها كثيراً إلى الوراء، لتتولى إدارة ترامب الملف الإيراني بصورة كاملة، ولا يُنكر مغزى أمره لنتنياهو بإرجاع الطائرات من منتصف الطريق إلى طهران، ليحوّل العلاقة مع الدولة الإسلامية من الضغط المباشر إلى الإغراء.
الشرق الأوسط، المفترض أن يكون جديداً، تكتنفه الأسئلة الكثيرة التي أنتجتها الحروب من غزة إلى إيران وما بينهما، فحرب الجبهات السبع التي توغلت إسرائيل فيها تحت عنوان تشكيل الشرق الأوسط الجديد، لم تُحسم واحدةٌ منها، ومسار أبراهام الذي يعتبره ترامب أيقونته المتميزة، وأهم مؤهلاته للحصول على جائزة نوبل للسلام، لا يزال متعثراً أمام الحاجز السعودي، وإذا ما نحيّنا جانباً الادعاءات الإسرائيلية المبالغ فيها حول ريادتها في تشكيل الشرق الأوسط الجديد، فإن كلمة السر في إنجازه تظل بيد البيت الأبيض ورئيسه ترامب، أما نجاحه في أصعب مهمة في التاريخ وهي تغيير أخطر منطقةٍ في الكون، فهذا أمر مشكوك فيه، لأن إدارة ترامب لم تصل بعد إلى إنتاج توازن جديدٍ في المنطقة يفضي إلى الجَسر بين الأجندتين، الإسرائيلية والسعودية، وليس غير مشروع سلام متوازن تطرحه أميركا أو توافق عليه تكون فيه الدولة الفلسطينية أحد أساساته ومقوّمات نجاحه، فهل يفعلها الرئيس ترامب، أم يظل يرى الحل الفلسطيني من المنظار الإسرائيلي وحده…. سنرى.