يمرّ الشرق الأوسط اليوم بلحظة تاريخية فارقة، قد تكون من أخطر ما شهدته المنطقة منذ انتهاء الحرب العالمية الاولى. فما يجري ليس مجرد أزمات متفرقة أو مواجهات محلية، بل هو انعكاس لتحولات عميقة في بنية النظام الإقليمي، وفي توازنات القوى الدولية المتنافسة على النفوذ والثروات في هذه المنطقة الحساسة. وإذا كانت غزة قد شكّلت شرارة الأحداث الأخيرة، فإن المخاوف الحقيقية تتعلق بمشاريع أوسع قد تعيد رسم خرائط السياسة والجغرافيا في الإقليم، خاصة في ظل التوتر المتصاعد حول إيران، واضطراب مواقف القوى الكبرى، وتصاعد تأثير التيارات الدينية القومية في إسرائيل، فضلًا عن الأدوار المتحركة لدول محورية كـ مصر، وغياب أفق سياسي واضح في واشنطن وموسكو على حد سواء.

غزة… بداية الحدث وليست نهايته

منذ اندلاع الحرب على غزة في السابع من أكتوبر، بدا واضحًا أن ما يجري يتجاوز حدود قطاع محاصر، ليعبر عن صراع أوسع على النفوذ والمشاريع الإقليمية. الحرب على غزة، في جوهرها، لا تتعلق فقط بمحاولة إسرائيل تحجيم قدرات حماس أو تأمين حدودها، بل تأتي في سياق أوسع يتصل برسائل استراتيجية تتعلق بترتيب الأوضاع في الإقليم.

إسرائيل ترى في غزة ورقة لا بد من حسمها، سواء عسكريًا أو سياسيًا، لقطع الطريق على النفوذ الإيراني، وإعادة ترتيب الواقع الفلسطيني بما يضمن أمنها الاستراتيجي طويل المدى. غير أن هذا المسعى محفوف بمخاطر التوسع إلى جبهات أخرى، خصوصًا في لبنان وسوريا واليمن، ما يجعل من هذه الحرب نقطة ارتكاز لتحولات أعمق في المنطقة.

اغتيال المرشد الإيراني… خطر قائم ومآلات كارثية

تتصاعد في الأوساط الأمنية والسياسية مخاوف حقيقية من احتمال إقدام إسرائيل على عمل نوعي كبير، مثل محاولة اغتيال المرشد الأعلى في إيران، خاصة في ظل التطرف الديني – القومي الذي يهيمن على الحكومة الإسرائيلية الحالية.

مثل هذه الخطوة لن تكون مجرد عملية اغتيال سياسي، بل قد تشعل حربًا إقليمية شاملة، إذ ستدفع إيران للرد بعنف في أكثر من ساحة، من الخليج إلى لبنان واليمن. كما سيعيد هذا الاحتمال فتح ملف تدمير البرنامج النووي الإيراني، الذي ما زال الشك قائمًا حول قدرة إسرائيل أو الولايات المتحدة على القضاء عليه بشكل كامل أو حتى جزئي.

إن أية مواجهة واسعة مع إيران لن تكون محدودة الأثر، بل قد تجر الإقليم إلى حالة من الفوضى، تهدد إمدادات النفط والطاقة، وتخلخل استقرار حلفاء واشنطن في المنطقة.

مصر… لاعب عقلاني لكن حاسم

تظل مصر، بحكم وزنها الجغرافي والسياسي والتاريخي، دولة محورية في معادلات الشرق الأوسط. فهي دولة تتسم بالعقلانية الاستراتيجية، ولا تنجر عادة إلى ردود أفعال متسرعة أو انفعالية. إلا أن قوتها الحقيقية تكمن في قدرتها على إحداث تغييرات كبرى إذا ما قررت التحرك.

إسرائيل تدرك تمامًا أن مصر هي الطرف القادر، إذا شاء، على إفشال أية أجندة تسعى تل أبيب لفرضها، سواء في غزة أو في الإقليم عمومًا. ولعل التاريخ يبرهن على أن مصر، حين تقرر التحرك، تكون قادرة على قلب موازين القوى، سواء عبر تحالفاتها، أو من خلال تأثيرها على الملفات الأمنية والسياسية في المنطقة.

ورغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها مصر، إلا أنها تبقى اللاعب الأساسي الذي لا يمكن تجاوز إرادته في رسم مستقبل الإقليم، خاصة في ظل محاولات إسرائيل دفع القاهرة لأدوار أمنية أو سياسية قد تتجاوز حساباتها الوطنية.

إسرائيل والولايات المتحدة… نزوع إلى القوة الخشنة

أكثر ما يثير القلق في المشهد الحالي هو ميل إسرائيل المتزايد إلى استخدام أدوات القوة الخشنة بدلاً من الدبلوماسية أو القوة الناعمة، مدفوعةً بحكومة يمينية دينية ترى أن الحسم العسكري هو الحل الوحيد لكل أزمات المنطقة.

في المقابل، تبدو السياسة الأمريكية مرتبكة وغير قادرة على صياغة استراتيجية واضحة ومستقرة في الشرق الأوسط. فإدارة بايدن تتأرجح بين تأكيد دعمها لإسرائيل بلا حدود، ومحاولة تهدئة الأزمات كي لا تتورط في حرب إقليمية كبرى تشتت تركيزها عن أولوياتها في أوكرانيا وآسيا. يضاف إلى ذلك عامل شخصي، إذ يرى كثيرون أن الرئيس الأمريكي الحالي يتسم بالمزاجية، وهو ما يزيد من حالة الغموض في السياسة الأمريكية تجاه ملفات الإقليم.

السابع من أكتوبر… الحدث والوظيفة وتغيير خرائط الإقليم

في خضم محاولة قراءة ما يجري في قلب هذه المعادلات، يظل السؤال الأهم مطروحًا: هل كان السابع من أكتوبر حدثاً عفوياً، أم أن توقيته ووظيفته جاءا في سياق أوسع يخدم مشاريع إعادة ترتيب المنطقة؟

لا شك، أن هجوم السابع من أكتوبر شكّل صدمة هائلة لإسرائيل وللعالم من حيث حجمه وشراسته، إلا أن قراءته من زاوية أخرى، لا يمكن تجاهل أنه وفر لإسرائيل الذريعة والمبرر لإطلاق تحركات عسكرية وسياسية واسعة، لا تقتصر على غزة التي تتعرض لحرب إبادة وحدها، بل تشمل إعادة النظر في مستقبل الضفة الغربية، والسلطة الفلسطينية، بل والخرائط الإقليمية برمتها.

ثمة قراءة، ترى أن إسرائيل كانت تنتظر “ورقة المبرر” التي تمكّنها من تنفيذ تغييرات استراتيجية، كانت تؤجلها أو لا تملك غطاءً دوليًا كافيًا لها. فمنذ ذلك اليوم، لم تعد القضية محصورة في محاربة “حماس”، بل انتقلت إلى طرح مشاريع كبرى تتعلق بإعادة ضم الضفة الغربية، وربما إلغاء فكرة الدولة الفلسطينية نهائيًا.، بدعم أمريكي أصبح صريحاً.

في هذا السياق، تسعى إسرائيل أيضاً، وبدعم أمريكي متفاوت، على وضع السلطة الفلسطينية أمام أزمات سياسية وأمنية واقتصادية مركبة، لتدفعها إلى حافة الانهيار أو التفكك الذاتي. فإذا تحقق ذلك، فإن إسرائيل تكون قد فتحت الطريق أمام تحقيق حلمها التاريخي بإقامة “دولة اليهود” على كامل الأرض بين البحر والنهر، أو على الأقل في حدود أوسع كثيرًا من تلك التي أقرّتها اتفاقيات أوسلو. بهذا المعنى، لم يكن السابع من أكتوبر مجرد حادث أمني أو عسكري، بل تحوّل إلى نقطة انطلاق لتغييرات تقوم على فكرة تقويض مشروع حل الدولتين، وإعادة تشكيل الواقع الديمغرافي والسياسي الفلسطيني، وهو ما سيعيد رسم الشرق الأوسط برمته وفق رؤية إسرائيلية تقوم على القوة والسيطرة.

السيناريوهات المحتملة

أخطر ما يميز اللحظة الراهنة هو غياب أدوات القوة الناعمة التي ساعدت في تهدئة الأزمات خلال العقدين الماضيين، من جهود دبلوماسية، واتفاقيات، ومبادرات سياسية. بدلاً من ذلك، يهيمن خطاب القوة الخشنة، والعقوبات، والحلول العسكرية، دون وجود أي أفق لحلول سياسية جذرية.وهذا ما يجعل المنطقة تعيش على صفيح ساخن، مهيأة في أي لحظة لانفجارات كبرى، ويترك الشعوب رهينة حسابات سياسية وأمنية، تُدار بعيدًا عن مصالحها الحقيقية في الاستقرار والتنمية. انطلاقًا من المعطيات الحالية، يظل السيناريو المتشائم هو الأكثر ترجيحًا في المدى المنظور. ويمكن تلخيص الاحتمالات في ثلاثة مسارات:

• سيناريو التصعيد الإقليمي الواسع: اغتيال شخصية إيرانية كبيرة مثل المرشد الأعلى، أو إعادة توجيه ضربات واسعة وأكثر شدّة للمنشآت النووية الإيرانية، ما يفتح الباب أمام حرب إقليمية شاملة ذات تبعات كارثية على الأمن والاقتصاد والطاقة.
• سيناريو الاحتواء المؤقت: استمرار حالة التوتر والضربات المحدودة، دون انفجار حرب شاملة، مع بقاء المنطقة على حافة الهاوية، خصوصًا في ظل السياسات الإسرائيلية القائمة على الاستفزاز المستمر.
• سيناريو التهدئة الجزئية: ضغوط اقتصادية وأمنية دولية قد تدفع الأطراف إلى تهدئة محدودة أو تفاوض جزئي، لكن دون حلول دائمة، في ظل غياب الثقة والحلول السياسية الجذرية.

الخاتمة

ما يجري في الشرق الأوسط اليوم لا يمكن فصله عن لحظة السابع من أكتوبر، التي كانت نقطة تحوّل فتحت الباب أمام كل هذه التداعيات. وحتى لو بقي السؤال حول “من المستفيد” دون إجابة قاطعة، فإن المؤكد أن إسرائيل وجدت في هذا الحدث المبرر لإطلاق مشروعها التاريخي، ليس فقط تجاه غزة، بل لإعادة رسم خريطة فلسطين والمنطقة وفق رؤيتها كقوة مهيمنة.

وفي المقابل، تبدو الولايات المتحدة عاجزة على فرض مقاربات دبلوماسية مستقرة، أو الإمساك بخيوط اللعبة، فيما تظل إيران على صفيح ساخن، وتبقى مصر، برغم ظروفها الداخلية، هي الدولة الوحيدة القادرة علىمعادلات الإقليم، و كبح جماح الانفجار الإقليمي إذا قررت التدخل في اللحظة المناسبة.

غير أن الإنصاف يقتضي الإشارة أيضًا إلى سوء قراءة حركة حماس للمشهد الاستراتيجي الأوسع. إذ يبدو أن حماس تعاملت مع السابع من أكتوبر باعتباره فرصة لإحداث تغيير ميداني أو سياسي سريع، لكنها أخطأت في تقدير رد الفعل الإسرائيلي والدولي، وفي فهم طبيعة اللحظة الإقليمية والدولية، التي لا تحتمل تصعيدًا بهذا الحجم دون تداعيات كارثية على القطاع والشعب الفلسطيني كله.

استمرار حماس في قراءة المتغيرات الإقليمية والدولية بعقلية محلية أو فصائلية محدودة، يجعلها عاجزة عن تفويت الفرصة على إسرائيل، أو الحد من استثمارها للحدث في سياق مشروعها الأوسع. وهو ما يضع الفلسطينيين جميعًا أمام معادلة شديدة الخطورة، قد تؤدي إلى تغييرات لا تصب في مصلحة قضيتهم الوطنية، بل تهدد وجودهم السياسي والجغرافي على حد سواء.

في رأيي، يبدو السيناريو المتشائم هو الأكثر ترجيحًا، خصوصاً في ظل صعود عقلية القوة الخشنة، وهيمنة الأيديولوجيا الدينية المتطرفة على القرار الإسرائيلي، واستمرار الارتباك الأمريكي، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة قد تكون الأخطر منذ عقود. وبينما تتراجع مساحات السياسة والدبلوماسية، يبقى الشرق الأوسط معلقًا على خيط رفيع بين تهدئة مؤقتة وانفجار قد يعيد تشكيله على نحو عميق ومؤلم.

شاركها.