بعد أن أعلن المفاوض الأميركي آدم بولر عن قرب التوصل إلى اتفاق منوّهاً بمرونة حركة «حماس»، فوجئ الكل بإعلان ستيف ويتكوف انسحاب الوفد الأميركي من الدوحة.
واستكمالاً للمناورة المكشوفة والمنسّقة يعلن بنيامين نتنياهو سحب الوفد الإسرائيلي، والترحيب بالموقف الأميركي الذي أطلق تهديدات صعبة لـ»حماس»، وأشار إلى نتنياهو أن يفعل ما يجب فعله.
المناورة المكشوفة ترتقي إلى مستوى الفضيحة حين تعلن مصادر إسرائيلية أن المفاوضات لم تنهر، ثم يعود ويتكوف، أمس، فقط بعد ثلاثة أيام من إعلان الانسحاب، أن المفاوضات مع «حماس» التي تعثّرت بدأت تعود إلى مسارها.
واستكمالاً للفضيحة نقلت شبكة «فوكس نيوز»، أمس عن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، أن ثمة تقدماً كبيراً في مفاوضات غزّة.
وبالتزامن، أيضاً، مع هذه التصريحات تعلن دولة الاحتلال أنها ستشرع في إسقاط المساعدات الإنسانية لسكّان القطاع، عَبر الجوّ.
بين إعلان انسحاب الوفدين الأميركي والإسرائيلي، وعودة المفاوضات إلى مسارها حسب ويتكوف، لم يطرأ أي جديد على مواقف المقاومة الفلسطينية من ملف المفاوضات، فما الذي جعل الإدارة الأميركية، وستتبعها نظيرتها الإسرائيلية، حتى تعود سريعاً إلى طاولة المفاوضات؟
في الواقع فإن التصعيد الأميركي الإسرائيلي، الذي أوحى بأن المفاوضات على وشك الانهيار، بسبب تعنّت «حماس» قد استهدف تصعيد الضغط عليها بأمل الحصول على تنازلات لكن الوقت لم يسعفهم لتحقيق ذلك.
من حيث المبدأ، فإن كل الأطراف غارقة في أزماتها وتحتاج إلى التوصل لاتفاق. دونالد ترامب بحاجة إلى إنجاز بعد فشله في تحقيق السلام في أوكرانيا، وحاجته للانتقال إلى «اليوم التالي»، لتوسيع «اتفاقات أبراهام»، حيث تأمل أميركا أن تشمل عشر دول عربية وإسلامية.
وفي خلفية الموقف الأميركي، أيضاً، أن دولة الاحتلال قامت بكل ما يمكنها القيام به من احتلال وتدمير وقتل وتجويع، ولكنها لم تنجح في تحقيق أهدافها، وأنها لا تملك خيارات أخرى سوى مواصلة ما تقوم به.
وفي خلفية الموقف الأميركي، أيضاً، أن العالم كله بمن في ذلك حلفاء الدولة العبرية «الغربيون»، قد أعلى الصوت، ورفع مستوى الانتقادات لحرب الإبادة والتجويع، التي تندفع نحو تحفيز العديد من الدول للاعتراف بدولة فلسطين على غرار ما أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وبالإضافة، تزايدت الانتقادات في الداخل الأميركي لسياسة ترامب بسبب استمرار دعمه لدولة الاحتلال.
التفاعلات الداخلية في أميركا، تقترب من أن تشكل أزمة لترامب، الذي لا يملك أي خيارات أو بدائل كما يدّعي، سوى التوصل إلى اتفاق.
نتنياهو هو الآخر، لم يعد لديه المزيد من الوقت، ذلك أن ائتلافه الحكومي يتفكك، وهو بحاجة إلى إعادة ترميم شعبيته خلال فترة الأشهر الثلاثة لخروج «الكنيست» إلى العطلة الصيفية.
خروج «الكنيست» سيعطي نتنياهو الفرصة للبقاء بحكومة أقليّة، إلى أن تجري انتخابات مبكرة في أوائل 2026.
الجيش والأجهزة الأمنية يضغطون لتحقيق اتفاق بسبب فقد الخيارات، وفقد الأهداف، وبسبب الخسائر التي يتكبّدها جيش الاحتلال في غزّة، وما يعتريه من نقص في الكوادر البشرية، وضعف في الثقة، وتزايد حالات الانتحار والتمرّد عن الخدمة.
اللافت للنظر، تصريح نتنياهو، الذي قال فيه إنه لن يسمح بصفقة تؤدي إلى الاستسلام لشروط «حماس»، إذ إن ذلك يشير إلى حالة ضعف وفشل ومحاولة للتغطية على الفشل.
وبغض النظر عن الأبعاد السياسية والشخصية التي تقف خلف إصرار نتنياهو على مواصلة الحرب الهمجية، إلّا أنه لا يستطيع تجاهل الاتهامات الداخلية المتزايدة، بأنه يخسر المزيد من الحلفاء ويدفع دولة الاحتلال نحو أن تكون دولة منبوذة.
صحيح أن الفلسطينيين يتعرضون لخسائر باهظة، ولكن دولة الاحتلال هي الأخرى تتعرض لخسائر ذات أبعاد إستراتيجية داخلياً، وعلى المستوى الدولي، حيث لم يبق معها تقريباً سوى أميركا، التي قد تفقد صبرها، انطلاقاً من رؤيتها لمصالحها.
المقاومة هي الأخرى، تعيش تحت ضغط أزمة إنسانية كارثية بسبب الحصار، واستمرار حرب الإبادة والتجويع، وهي لا تستطيع تحمّل تبعات ذلك، على أكثر من مليوني فلسطيني، مهدّدة حياتهم بالجملة.
وفق ذلك أعتقد أن الصفقة باتت قريبة جداً، وربما لا يتجاوز التوصل إليها أكثر من أسبوع.
إلى ذلك الحين، فإن المحاولات الإسرائيلية الأميركية للتنصّل من المسؤولية عن حرب التجويع، لن تنجح في إبراء ذمّة الطرفين أمام العالم.
إسقاط المساعدات عَبر الطائرات، تجربة ثبت فشلها، وهي ليست أكثر من ذر للرماد في عيون مفتوحة سواء من حيث الكمّ والنوع، أو الآثار المترتّبة على ذلك.
الحاجة في غزة تتعدّى توفير الدقيق، وبعض المعلّبات، ماذا عن الأدوية، ماذا عن الوقود، ماذا عن الحليب، وماذا عن احتياجات كثيرة؟
لا يمكن أن تتوفر من خلال هذه الآلية التي تعمّق الفوضى، ولا تسدّ رمق القليل من العائلات؟ هذا الملفّ بدأ يثير قلق الكثير من حلفاء أميركا في المنطقة، ويتسبّب بصداع لأنظمة عديدة ما يجبر الإدارة الأميركية على تغيير كل طريقة تعاملها مع هذه الكارثة.

شاركها.