في المعجم البلاغي للحياة، تحمل عبارة “الظهور تكسِر الذُّهُور” مفارقة موجعة، تذكّرنا بأن المظاهر كثيرًا ما تُخفي ما يتآكل في الداخل، وأن الاستعراض، مهما بدا صلبًا، قد ينكسر عند أول ارتطام بالحقيقة؛ ليست هذه مجرّد حكمة لغوية، بل قانون من قوانين الاجتماع والسياسة والتاريخ: الإفراط في التزيّن ورفع الشعارات قد يكون بداية الانكشاف والانهيار.
في السياق الفلسطيني الراهن، تتجلّى هذه الحقيقة بإلحاح لا لبس فيه، ففي ذروة الإبادة الجماعية الموثقة بالصوت والصورة، تتكاثر مشاهد “الظهور” على الشاشات: صمود، شعارات، تحليلات، مواقف متضاربة، لكن ما يقابله على الأرض هو “ذُهُور” حقيقي يتآكل بصمت تحت الركام؛ قدرة الناس على الاحتمال، على الصمود، على الفعل … تنهكها المقتلة اليومية.
هذا الانفصال بين الظاهر والحقيقي لا يقتصر على الحالة الفلسطينية، فلدى الشعوب المجروحة تجارب كثيرة مع لحظات بدا فيها الخطاب صاخبًا والواقع يتهاوى، في إحدى التجارب الحديثة، خرجت نخبة سياسية لتعلن “بداية جديدة” بعد حرب طاحنة، وامتلأت الشاشات بخطابات البناء والوحدة، بينما كانت البلاد تتفكك، والخدمات تنهار، والطائفية تتعمّق، بقيت الصور واجهات براقة، لكن الظهر المجتمعي ظلّ مثقلاً لا يجد من يُسنده.
تجربة كهذه علّمت شعبها، كما تعلّمنا نحن اليوم، أن الظهور بلا عمق وبلا فعل متجذّر لا يصنع نهضة، بل يفاقم الانهيار.
في غزة اليوم، لا حاجة لمزيد من الوجوه التي تتحدث عن البطولة، بل لأولئك الذين يصنعونها في الظلال: المعلّم الذي يُدرّس تحت الخيمة، الطبيب الذي يُجري العمليات في الظلام، الأم التي تقاوم بالجوع، والشاب الذي يوثّق العدوان بكاميرا متهالكة، هؤلاء هم الذُّهُور الحقيقية؛ أولئك الذين شدّوا ظهورهم بالحقيقة لا بالخطابة، وبالفعل لا بالصورة.
الخطر الأكبر يتجلّى حين تُختزل الفاجعة في واجهة إعلامية، ويُستبدل الفعل بالتصريح، والميدان بالمنبر، وحين يغيب الوعي بالفارق بين المعركة الإعلامية والمعركة الوجودية، تتشوّش الرسائل وتضعف السردية، الخطاب المُوجّه للخارج ليس كذاك الموجّه للداخل، وإعلام التعبئة في زمن المجازر له قواعده، المستمدّة من وجدان الناس وواقعهم الحي.
وفي غمرة هذا الالتباس، تلوح نبوءة محمود درويش: “سيموت غدًا من لا يعرف أن يفرّق بين الظهور … والوجود.”
ولعلّ من اللافت، وسط هذا الزحام من الخطابات والعروض الإعلامية، أن تبرز أحيانًا مواقف تمثّل الشرعية الفلسطينية ممثَّلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، رغم ما تواجهه من تحديات وتضييق، مواقف تجلّت في شدّ الذُّهُور لا في التهافت على الظهور، وظلّت على تواضعها الإعلامي، مشدودة إلى شعور عميق بالمسؤولية، نابعة من التزام تاريخي تجاه الشعب، لا من رغبة في تسويق الذات، فإدارة شؤون البلاد والعباد لا تتم عبر النوافذ المفتوحة على الفضائيات، بل من خلال قراءة دقيقة للمصلحة الوطنية، وتحمّل تبعات القرار بعيدًا عن الاستعراض.
ولعلّ من أبرز تلك اللحظات التي تجلّى فيها الذُّهُور بعيدًا عن الصخب، ما جرى قبل أعوام، حين خاطب الرئيس محمود عباس الأمم المتحدة قائلاً: “احمونا… نحن بحاجة إليكم”، لم تكن تلك الصرخة استعراضًا إعلاميًا، بل تعبيرًا صادقًا عن استشعار عميق بالمسؤولية في لحظة انكشاف كامل، حين تصبح المطالبة بالحماية فعل شجاعة لا علامة ضعف، ورغم ما قوبل به النداء من انتقادات، خاصة من بعض قوى المعارضة — وعلى رأسها حركة حماس، التي اعتبرته تخليًا عن خطاب المقاومة — فإن مرور الوقت أثبت أن ذلك الموقف، بصمته وتواضعه الإعلامي، كان محاولة مبكرة لفتح ثغرة في جدار العزلة، واستباقًا لمسار دمويّ أثبتت الأيام قسوته، لقد بدا أن قوة الخطاب لا تُقاس بعلو الصوت، بل بصدق النية وعمق الإدراك لما يستحقه الناس من حماية وكرامة.
من منظور المدرسة الواقعية في العلوم السياسية، لا تُقاس القوة بالشعارات بل بالقدرة على الحفاظ على التماسك الداخلي في وجه التهديدات، والقيادة، وفق هذا الفهم، لا تعني تمثيلًا رمزيًا على الشاشات، بل قدرة عملية على التأثير والبقاء، أما إذا أُدير الصراع بعين على الكاميرا لا على الواقع، فإن الظهور يصبح بابًا للانكشاف، والسردية تنقلب، حتى يُرى الجلاد بطلاً، وتُدفع الضحية إلى موقع الاتهام.
والمفارقة تتجلى في أن من يده في النار ليس كمن يده في الماء، من يعيشون المأساة لا ينتظرون من يرفع معنوياتهم من الخارج، بل من يحمل معهم الأحمال الثقيلة؛ الكلمات، إن جاءت من بعيد، قد تُثقِل بدل أن تُسند، وقد تُعزز الفجوة بدل ردمها.
من هنا، فإن المطلوب اليوم ليس تغييب الظهور، بل ترشيده؛ ليس كتم الصوت، بل تصويبه، أن يتقدّم للحديث من عاش الخسارة، لا من يحللها من فوق، أن تعود الكلمة لأصحاب التجربة، لا لمن يعتاش على تمثيلها.
فكما قال درويش:
“فإني تعلّمتُ كلَّ الكلامِ، لأكسرَ صمتَ الحطامْ …”، فالكلمة، حين تخرج من قلب الحطام، تُنقذ، لا تُزيّف.
وهنا بيت السؤال: كيف نمنع “الظهور” من أن يكسر “الذُّهُور”؟
الجواب يبدأ بتواضع أمام الحقيقة، بإعادة الاعتبار للفعل لا للقول، للمعاناة لا للاستعراض، فالصورة الحقيقية تُلتقط من عمق البيوت المهدّمة، لا من زوايا الكاميرات، وكل صوت لا يصدر من التجربة، هو ضجيج لا رسالة، وكل ظهور لا يسنده ظهرٌ مُحمّل بالحقيقة، لا يُنتج إلا خيبة جديدة.
في صراع البقاء، لا نحتاج إلى مزيد من الأبطال المُفترضين، بل إلى من يصنعون الفرق بالفعل لا بالقول، والنجاة تبدأ حين نعيد تعريف القيادة على أنها فعل لا صورة، وذُهُور لا ظهور.