ليس مستغربًا أن تواجه المحكمة الجنائية الدولية ضغوطًا في ملفات معقّدة كالملف الفلسطيني. لكن أن تتحوّل هذه الضغوط إلى حرب علنية ضد القضاة والمحقّقين والمقرّرين، فهذه مرحلة مختلفة كليًا.

في خطوة تُعدّ سابقة خطيرة في تاريخ العلاقة بين السياسة والقانون الدولي، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، عبر وزير خارجيتها ماركو روبيو، فرض عقوبات على أربعة قضاة في المحكمة الجنائية الدولية، على خلفية إصدارهم مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير الأمن السابق يؤاف غالانت.

ما كان بإمكان الإدارة الأميركية أن تفعله، لو كانت فعلاً تسعى إلى التهدئة والالتزام بالقانون الدولي، هو الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها على قطاع غزة، الذي دخل شهره الحادي والعشرين، ولوقف استهداف المدنيين في لبنان. لكنها اختارت، بدلاً من ذلك، أن تهاجم المؤسسة القضائية الدولية الوحيدة التي لا تزال تحاول، ولو بشكل متأخر ومتردد، فرض بعض من قواعد العدالة.

وليست هذه المرة الأولى. فقبل سنوات، طلب نتانياهو من إدارة ترامب معاقبة المحكمة، مقابل موافقته على مطالب أميركية في ملفات أخرى. واليوم، تتكرر الصفقة: تخلٍّ أميركي عن مبادئ العدالة، مقابل ولاء سياسي لا يشك فيه أحد.
لم تتوقف الحملة عند المحكمة وحدها. فبعد فشل جهود واشنطن في إقالة المقررة الخاصة للأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيزي، قررت الإدارة الأميركية معاقبتها شخصيًا، بسبب تقاريرها الجريئة التي وصفت ما يحصل في غزة بـ”الإبادة الجماعية”.

خطوة كهذه لا تستهدف ألبانيزي وحدها، بل تضع جميع آليات التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان تحت تهديد مباشر، وتوجّه رسالة واضحة مفادها أن “العدالة الدولية ستُسحق إذا ما مسّت الحلفاء الاستراتيجيين لواشنطن”.
من جهتها، ردّت ألبانيزي بقوة، ووصفت القرار الأميركي بأنه “ترهيب على طريقة المافيا”، مؤكدة أنها ستواصل الدفاع عن حقوق الضحايا في غزة، مهما بلغت الضغوط السياسية.

أعادت هذه التطورات طرح أسئلة قديمة جديدة: هل تستطيع المحكمة الجنائية الدولية أن تفرض سلطتها على الدول الأقوى؟ وهل يمكن لمبدأ “عدم الإفلات من العقاب” أن يصمد أمام هيمنة المصالح السياسية؟

وعلى رغم أن إسرائيل والولايات المتحدة ليستا من الدول الموقّعة على ميثاق روما، فإن المحكمة تستند إلى اختصاصها في الأراضي الفلسطينية، التي انضمت رسميًا إلى الميثاق عام 2015. وهذا يمنحها شرعية كافية لملاحقة جرائم الحرب والإبادة المرتكبة على الأرض الفلسطينية، حتى لو كان الجناة من خارج عضويتها.

لكن الحماية الأميركية تحوّل القادة الإسرائيليين إلى ما يشبه “منطقة معفاة من العدالة”. أما الدول الأوروبية، وعلى رغم امتلاكها وسائل ضغط حقيقية – اقتصادية، أكاديمية، عسكرية – فإنها ما زالت تراوغ، وتفضّل الحفاظ على صفقاتها مع إسرائيل على حساب قيم لطالما ادّعت الدفاع عنها.
في هذه السياقات، لم يعد دعم إسرائيل مجرد موقف سياسي، بل تحوّل في عهد ترامب إلى معادلة استراتيجية: إسرائيل تمثّل الذراع المنفّذة للولايات المتحدة في المنطقة، تقوم بما لا تستطيع واشنطن القيام به مباشرة، وتتحمّل تبعاته بدلاً منها.

وبهذه المعادلة، تُقوَّض فكرة القانون الدولي، وتُفرَّغ العدالة من معناها، ويُرسَّخ مبدأ الإفلات من العقاب، لا سيما إذا تعلّق الأمر بحلفاء أقوياء.

الضحايا الفلسطينيون في غزة، الذين تجاوز عددهم عشرات الآلاف بين شهيد وجريح، لا يرون في هذه التطورات سوى مؤشّر جديد إلى أن العدالة لم تكن يومًا متاحة لحلفاء الأميركيين أو للشعوب الواقعة تحت الاحتلال.

ليس مستغربًا أن تواجه المحكمة الجنائية الدولية ضغوطًا في ملفات معقّدة كالملف الفلسطيني. لكن أن تتحوّل هذه الضغوط إلى حرب علنية ضد القضاة والمحقّقين والمقرّرين، فهذه مرحلة مختلفة كليًا.

العدالة، إن كانت لا تُطبّق إلا على الضعفاء، فليست بعدالة، بل هي انتقامٌ مؤسسي.

ما يحصل الآن ليس فقط تهديدًا لهيبة المحكمة، بل هو اختبار حقيقي لمصداقية النظام الدولي بكامله. وإذا لم تتحرّك الدول والمؤسسات التي تدّعي دعم العدالة وحقوق الإنسان، فإن ما سيُقوَّض لن يكون فقط المحكمة في لاهاي، بل ما تبقّى من الأمل في نظام عالمي منصف.

شاركها.