القرار الفرنسي بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيلول القادم هو خطوة جيدة، وهي نتيجة للحراك الشعبي الأوروبي المتضامن مع الشعب الفلسطيني. ولعل تصريح كير ستارمر، رئيس وزراء بريطانيا، ومن بعده مارك كارني، رئيس وزراء كندا، عن نية بلديهما القيام بذلك إذا لم تُنهِ إسرائيل حربها على غزة بحلول أيلول القادم يُشير الى أهمية الخطوة الفرنسية. وبالمجل، فإن هذا الحراك سيفتح المجال لبقية الدول الأوروبية، باستثناء القليل منها مثل هنغاريا وألمانيا، للاعتراف بالدولة الفلسطينية. والأهم من كل ذلك، أن هذا الاعتراف يفتح الطريق مستقبلاً، إذا ما استمر الحراك الشعبي في الدول الغربية، لفرض المقاطعة على دولة الاحتلال وهو أهم من الاعتراف نفسه.
في جميع الأحوال، هذه النوايا الأوروبية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية يجب ألا تمنعنا من رؤية عدد من الحقائق التي تجعل من هذا الاعتراف ناقصاً، ومحاولة أيضاً منها للتستر على مشاركتها في حرب الإبادة في غزة. وفي هذا السياق يمكن الإشارة للعديد من الملاحظات:
هذا الاعتراف مشروط بإصلاح السلطة الفلسطينية. لاحظوا بأن الدول الأوروبية هي من قادت عملية إصلاح السلطة منذ أن فرضت عليها تغيير القانون الأساسي الفلسطيني العام 2004 لاستحداث منصب رئيس الوزراء. ومن يرغب بالرجوع الى تقارير الاتحاد الأوروبي السابقة يجد بأنها تشيد بالإصلاحات التي قامت بها السلطة، والتي تمت برعايتها وإشرافها، وبالتالي فإن طرح موضوع الإصلاحات مجدداً غير مفهوم ويأتي من باب إعطاء دولة الاحتلال باباً للهروب من استحقاق الدولة الفلسطينية بحجة أن السلطة لم تُنجز الإصلاحات المطلوبة منها الى الآن.
هذا الاعتراف أيضاً مشروط بنزع سلاح المقاومة الفلسطينية، وهو مسألة مُحيّرة فعلياً، فإذا لم تتمكن دولة الاحتلال من القيام بذلك خلال سنتين من حرب الإبادة، فكيف يُمكن للسلطة الفلسطينية القيام به، اللهم إلا إذا كان هذا الاشتراط هدفه إحداث حرب أهلية فلسطينية تخدم في نتيجتها دولة الاحتلال. وهذه الرؤية كما يبدو مستوحاة من لبنان، حيث تجري ممارسة الضغوط على الحكومة اللبنانية للقيام بنزع سلاح حزب الله بالقوة خدمة لإسرائيل.
يضاف لذلك أن هذا الاعتراف المشروط لا يشير الى أي من القرارات الأممية التي تحدد حدود الدولة الفلسطينية وهذه الحدود متروكة بالتالي لنتائج المفاوضات مع دولة الاحتلال. آخذين بعين الاعتبار أن دولة الاحتلال ترفض قيام دولة فلسطينية، وترفض التفاوض مع الفلسطينيين، وإذا تفاوضت كما حصل في السابق فإنها تقوم بذلك ببنية مبيته لإفشال المفاوضات، فإن الدولة الفلسطينية إن تحققت، ستكون على الأراضي التي تقرها لها دولة الاحتلال بشكل مُنفرد، وهي في أفضل الأحوال، دولة صفقة القرن التي تحدث عنها ترامب العام 2020. وهي دولة بلا قدس عربية ولا أغوار وبمساحة تقل عن 60٪ من الأراضي المحتلة منذ العام 1967. الفلسطينيون لم يقبلوا بدولة دون القدس في السابق ولم يقبلوا بالتنازل عن أي جزء من الضفة الغربية او غزة، فلماذا يقبلوا به الآن بعد ان أصبح العالم جميعه مُدركا لجرائم دولة الاحتلال والشعوب في كل بقاع الأرض تضغط على حكوماتها لمعاقبتها.
أيضاً، علينا أن نلاحظ أنه لا توجد في مبادرات الاعتراف هذه أية آلية لتحويل الدَولة المُعتَرف بها الى واقع سياسي على الأرض. لماذا ستكترث دولة الاحتلال بهذا الاعتراف وهو غير مصحوب بتهديد مثلاً بقطع العلاقات التجارية والسياسية معها؟ اليوم يوجد 147 دولة مُعترفة بفلسطين، منها روسيا والصين وهما عضوان دائمان في مجلس الأمن، لكن ما قيمة ذلك طالما العلاقات التجارية والسياسية بين غالبية هذه الدول ودولة الاحتلال قائمة؟ ما الذي سيجبرها على إنهاء احتلالها. إن الأصل هو في فرض العقوبات على دولة الاحتلال وليس في اعتراف لا تقيم له إسرائيل وزناً.
لاحظوا أيضاً أن التلويح بالاعتراف بالدولة الفلسطينية يأتي في وقت لا زالت فيه فرنسا وبريطانيا وكندا والكثير من الدول الغربية تُقدم السلاح والدعم الأمني لإسرائيل في شراكة واضحة مع ما يرتكبه الاحتلال من جرائم وحرب إبادة تشمل القتل بالتجويع، وهو ما يشير الى أن هذه الدول تريد إخفاء مشاركتها في هذه الجرائم. إن الأصل هو أن تتوقف هذه الدول عن المشاركة في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني وهو أهم من اعترافهم بدولة فلسطينية غير موجودة على أرض الواقع.
إن ما هو عاجل ولا يقبل التأجيل هو أن تقوم هذه الدول بممارسة الضغوط على دولة الاحتلال لإدخال المساعدات الإنسانية لغزة بدون قيد او شرط لإنهاء المجاعة فيها، والأولية أيضاً هي لإنهاء حرب الإبادة التي يتعرض لها المواطنون في غزة منذ عامين تقريبا، ولمنع دولة الاحتلال من مصادرة الأراضي الفلسطينية في الضفة. هذه لا تحدث بالاعتراف بدولة فلسطين، بل بوقف التجارة والتعاون الأمني والعسكري والثقافي مع دولة الاحتلال واشتراط إعادتها بوقف السلوك الاجرامي لدولة الاحتلال في الاراضي الفلسطينية.
أخيرا، أوليس تأجيل الاعتراف حتى أيلول القادم هو شراء وقت مستقطع لدولة الاحتلال حتى تُكمل حرب إبادتها في غزة. لماذا تأجيل الاعتراف أكثر من شهر؟ كيف يخدم ذلك هدف إنهاء الحرب في غزة وإدخال المساعدات الإنسانية لها؟ من الواضح أن النية هي إعطاء حكومة الاحتلال المزيد من الوقت حتى تنهي المهام التي وضعتها لنفسها، وفي مقدمتها قتل أكبر عدد من الفلسطينيين وإخضاع وتهجير من تبقى منهم على قيد الحياة.
إن حديث الغرب عن نواياه بالاعتراف بدول فلسطينية، يبقى خجولاً، وهو لن يوقف المذبحة في غزة، بل ويحرف الأنظار عنها بشكل متعمد. وإذا كان الغرب صادقاً فيما يقول، فليبدأ أولاً بفرض إدخال المساعدات لغزة، ووقف حرب الإبادة فيها، وإجبار الاحتلال على الانسحاب منها، وإنهاء الحصار عليها، ووقف الاستيطان والقتل في الضفة.

شاركها.