بينما يتحدث العالم عن وقف الحرب، تتحدث واشنطن من بين السطور عن إدارة الحرب. منذ إعلان خطة ترمب لوقف الحرب في غزة، يمكن ملاحظة أن الإدارة الأمريكية تسير وفق نهج لا يسعى إلى إنهاء الصراع بقدر ما يهدف إلى إدارته ضمن معادلة اللا حرب واللا حل. وبعد مرور ما يقارب أسبوع على بدء تنفيذ الخطة، بدى واضحاً، أن المشهد يسير نحو تكريس واقعٍ جديد، يستدعي استحضار مصطلح “الغموض البنّاء” الذي صاغه هنري كيسنجر في السبعينات من القرن الماضي ، ولكن المفارقة أن هذا المفهوم عاد إلى الواجهة لا كأداة دبلوماسية لتقريب المواقف، بل كآلية لإدامة حالة ضبابيةِ تتيح لكل الأطراف الادعاء بالانتصار، بينما تبقى الحقيقة، أن الواقع يعاد هندسته بما يخدم مصالح واشنطن وتل أبيب.
حيث، يشير مفهوم الغموض البنّاء إلى ترك بعض التفاصيل في الاتفاقات غامضة عمدًا، لتجنّب الصدام بين المواقف المتناقضة، وتمكين الأطراف من المضي قدمًا في التفاوض، غير إدارة ترمب أعادت توظيف المفهوم بشكل مختلف: لم يعد الغموض وسيلة لتقريب وجهات النظر، بل أصبح أداةً لإبقاء الوضع كما هو، بحيث لا يُحسم الصراع، ولا يُفتح الباب لتغيير جذري في موازين القوى. وهكذا، تحوّل الغموض في تفاصيب خطة ترمب إلى سياسة مدروسة تحافظ على مصالح واشنطن في المنطقة، من خلال إيهام الجميع، بأن التسوية قريبة، بينما يجري تثبيت الوقائع الميدانية لصالح إسرائيل.
تظهر تصريحات الإدارة الأمريكية الأخيرة وعلى رأسها تصريحات الرئيس ترمب، وكأنها تسعى إلى تطبيع فكرة بقاء حماس كفاعل ضروري في اليوم التالي. فالتلميحات المتكررة عن السماح لها بالعمل لضبط العائلات أو دورها في حفظ الأمن، وعدم ترك فراغ في غزة، تعكس توجهاً نحو إعادة دمج حماس في المعادلة الجديدة لا كخصم بل كشريك مؤقت لضبط الميدان. وهو تناغم ظاهري لا يعكس تبدّلًا في الموقف الأمريكي من حماس بقدر ما يكشف عن استخدامها كأداة لاحتواء الفراغ السياسي، وضمان أن يبقى الملف الفلسطيني تحت سقف السيطرة الأمريكية.
اعتقد، أخطر ما تحمله فكرة الغموض البنّاء، أنه يمنح إسرائيل وقتًا ومساحة لتكريس واقع الاحتلال الجديد. فبحسب مراحل خطة ترمب، خرجت إسرائيل من المرحلة الأولى مسيطرة فعليًا على نحو 58٪ من مساحة غزة، وفقاً لما يسمى الخط الأصفر. ومع بقاء خطوط النار مجمّدة، والحديث عن الأمن والإعمار مؤجلًا، تتجه الأمور نحو إدارة دائمة للأزمة لا نحو حلّها. بهذا الشكل، يصبح الغموض البنّاء غطاءً لسياسيا!لواقع غير متوازن: إسرائيل تبقى وتعيد التموضع، والفلسطينيون يُتركون في مساحة رمادية بين الحرب والسلام.
ما يعزز الإنطباع، أن مؤشرات متزايدة على أن أطرافًا إقليمية مثل قطر وتركيا ساهمت في إقناع واشنطن بأهمية الإبقاء على حماس في المعادلة المقبلة. فهاتان الدولتان تمتلكان قنوات اتصال مباشرة مع حماس، وتطرح نفسها كوسطاء قادرين على ضمان الهدوء بعد الحرب.
لكن عمليًا، وفي سياق قراءة تفاصيل المشهد، يبدو هذا الدور جزءًا من هندسة الغموض: فبدلًا من الدفع نحو حلّ نهائي أو إعادة إعمار شامل،بناءً على نتائج مقررات مؤتمر نيويورك وقرارات الشرعية الدولية ومشروع حل الدولتين، يجري توظيف الوساطة لتجميد المشهد ضمن معادلة استقرار بلا تسوية.
بين حسابات واشنطن ومصالح تل أبيب وأدوار الوسطاء، يبقى الشعب الفلسطيني الخاسر الأكبر، فالواقع الميداني كما نراه جميعاً، يشي بتاجيل العدالة وتكريس المعاناة: لا إعمار، لا عودة لباقي المناطق ولا أفق سيلسي واضح. يتحوّل الغموض البنّاء هنا من وسيلة دبلوماسية إلى أداة هدم، حين يصبح مبررًا لتجميد الحقوق وتأجيل الحلول، في وقتٍ يعيش فيه الفلسطينيون بين “تهدئة مؤقتة” و”سلام مؤجل”، في مساحة رمادية لا حرب فيها تنتهي ولا حياة تُبنى.
إن ما يبدو غموضًا بنّاءً في الخطاب الأمريكي والمتمثل في بنود خطة ترمب، وتصريحاته المتكررة، ليس سوى سياسة واضحة لإدامة السيطرةعبر إدارة الأزمات، لا حلّها. فالرئيس ترمب بشخصيته المتقلّبة وخلفيته القائمة على منطق الصفقات، لا يسعى إلى إنهاء الصراع، بل إلى إعادة تعريفه بما يتناسب مع أولويات واشنطن الجديدة في المنطقة، حيث تبقى كل الأطراف في حاجة دائمة إلى الوسيط الأمريكي. دعونا نتذكر، هذا الغموض، إن طال أمده، قد يتحول إلى فوضى غير قابلة للإدارة، لأن شعبنا وإن أرهقته الحروب وأزمته المآسي لا يمكن إخضاعه إلى الأبد بسياسات الانتظار البنّاء.
ومن هنا، دعونا نسأل: كيف يقرأ الوسطاء، وخصوصًا مصر، بالاضافة لفرنسا والسعودية، الذيين تبنّوا فكرة مؤتمر نيويورك هذا المشهد المعقد؟هل تراهم في حالة ترقب وانتظار لما قد ينتجه هذا الوضع؟. أم يسعون فعلاً لتفكيكه وفتح أفقٍ حقيقيٍّ نحو تسوية دائمة؟ تُنهي زمن الغموض وتعيد للقضية بوصلتها الأصلية؟