الــمــواجــهــة (٢من٢) ..عبد الغني سلامة

 

أواصل البحث في كل ركن معتم مررت به، سأجوب تلافيف الذاكرة.. علّني أصل إلى جرحٍ قديم لم يندمل، أو صرخة ظلت مكبوتة، أو أصادف ذكرى حزينة، أو دمعةٍ تحجرت في مقلتها، سأفتش عن فرصة فوّتها، عن حلم تلاشى ولم يعد يراودني.
بدأتُ بسؤال البحث عن الذات، ولم أعرفها.. وانتهيت بأسئلة المواجهة، دون إجابات! أردت أن أعرف إن كنت عالقاً في بئرٍ ما.. تذكرت خيباتي، وساعات الانتظار، وساعات الخوف، ولحظات الوداع.
تذكرتُ لحظات توسّلي حضناً دافئاً، ومن أهملني، ومن تنمروا عليّ، ومن قمعني، ومن غدروا بي.. ومن فارقونا إلى الدار الآخرة.
تذكرتُ القنبلة التي لم تنفجر، والعبّارة التي كدت أُدفن فيها حياً، ورشقة الرصاص التي أخطأتني، وزنزانة العزل الانفرادي، وصفعات المحقق، وأفاعي الأغوار وعقاربها، ومشاريعي الفاشلة، والكهف المظلم، وصوت الشيخ الذي بدا كجنّي، وأسبوع عيد الأضحى الذي أمضيته بمفردي، والعمارة الفارغة التي بت فيها وحيداً، والمزبلة، والسيارة التي صدمت عامود الكهرباء، والقارب الذي انقلب بنا في عمق البحر، والباص الذي مال على جنبه قبل أن نهوي في النهر بعشرين متراً.. وأشياء أخرى لم أجرؤ على ذكرها.
بحثتُ كثيراً، وغصتُ عميقاً، قلبتُ كل حجر في وادي السنين وما ازددت إلا حيرة! يجب أن أعرف تحت أي صخرة ما زالت روحي محتجزة.
لماذا ترددتُ عن مواجهة صاحب الشركة حين تجاوز حدوده؟ ولماذا كنتُ أحسب ألف حساب للمدير العام، وأنا أدرك أنه لا يساوي قشرة بصل؟ لماذا تعبت وأنا أحاول قول «لا» حين كان قولها واجبا؟! لماذا أخجل من المديح، وأتهرب من المواجهة، وألجأ لتأجيل المشكلة، وأستسهل الركون في مناطق الأمان؟
لماذا أعجز عن التعبير عن عواطفي حتى تجاه من أحب؟! لماذا خيبتُ رجاء حبيبتي خلود، الأغلى على قلبي، ولم أوفِ بوعدي لها: أن أغمرها بالسعادة؟
لماذا أمضيت ثلاثين سنة في العمل الوظيفي متنقلاً من قرضٍ إلى قرض، وانتهيت مديوناً؟؟
بحثتُ في مخاوفي، وجدتني أخاف من المرتفعات الشاهقة، حتى إذا شاهدت مغامراً من هواة التسلق على حافة جرف شاهق تصيب قدمي نمنمة خفيفة.. وأخاف من الأماكن المعتمة والمهجورة.. ويقشعر بدني من رؤية جثمان.. فتشت عن أحلامي التي نسيتها، والتي ما زالت تراودني، والتي تجاوزها الزمن.
عدتُ إلى بيتنا العتيق في الفحيص، وجدته خالياً، وقد تهدمت أجزاء منه، وبدا هرماً هزمته السنين، كانت شجرة التوت متيبسة، وعلى غصنها بلبل يغرد وحيداً، لعله ينادي على محبوبته، رغبتُ أن أقلّب التربة تحتها علّني أجد اللعبة التي خبأتها هناك.
عدت إلى روضة الكنيسة ولم أجد غرفة الفيران، ثم رحتُ إلى مدرسة الوكالة، وجدتها أصغر مما هي في مخيلتي، استغربت كيف اتسع المقعد لثلاثتنا، تذكرت ملعب البيادر، وطوشات بعد الترويحة، وتهديدات الأستاذ فرحان، وعصا المدير اليازوري، فتشتُ خربشاتي على الكتب، ورسائل الغرام وقصائد نزار قباني، وأصدقائي نهاد وخليل وضيف الله ومحمد كامل.
عدتُ إلى حارتنا في صويلح، وجدت معالمها قد تغيرت كلياً، لم تعد تشبهها بشيء، كان كل الآباء قد انتقلوا للدار الآخرة، أصدقائي أنور وآرام وناصر سافروا، وأبناء جيلي غادروها. ولم يبقَ من الحارة سوى طيف ذكريات.
عدتُ إلى كلية الزراعة، وقفتُ أمام بوابتها المكونة من عامودَين حجريَّين، على أحدهما لوحة بالخط الكوفي باللون الأزرق نُقشت عليها عبارة «كلية الزراعة. جامعة بغداد، تأسست سنة 1952». وجدت فوق اللوحة يافطة مكتوباً عليها «للبيع»، حديقة السباع، ودرج المكتبة، والنادي، وحفلات قاعة التأميم، وضريح الشهيد الطيار، وغابة النخيل، والطريق الطويل المؤدي إلى المنحل، وملعب التنس، والمقاعد الخشبية أمام مبنى التسجيل، ومطعم القسم الداخلي، واليابسة والتمن، ورائحة الأصدقاء.. نهشتها الجرافات تمهيداً لتحويلها إلى مجمع تجاري.
استفقت من غيبوبتي.. ومشيت نحو ذاتي لأتأكد أن حياتي لم تكن كذبة.  
هرعت إلى ألبوم الصور، كانت خلود والأولاد والعائلة والأصدقاء لم يبرحوا أماكنهم الأثيرة في قلبي.
وقفت أمام المرآة، لم أدقق في تجاعيد وجهي، والبياض الذي غزا شعري.. سبرت عميقاً إلى روحي لأطمئن أنها لم تنكسر، وأنها ما زالت غضّة نقية.
الحياة التي نعيشها صعبة ومعقدة بشكل مرهق، فيها ما يكفي من التحديات والمشاكل والهموم والأوجاع والأحزان.. ولكلٍ منا همّه، ومخاوفه، وأسباب قلقه، ونقاط ضعفه.. لكلٍ منا سره الخاص، وذكرياته العزيزة، أو التي تعذبه، ومواقف محرجة يحاول نسيانها.. ومع ذلك نكابر، ونتحايل على أنفسنا، ونحاول دائماً الظهور بأفضل صورة، وندّعي أننا أقوياء، وأننا لم نقترف خطأً واحداً.. أو نبرر لأنفسنا تلك الأخطاء.
نخجل أن نظهر ضعفنا، وكثيراً ما نقمع انفعالاتنا، ونكبت عواطفنا، ونحبس دموعنا خاصة أمام الغير.
كل واحد منا اقترف أخطاء فادحة، وراهن على حسابات خاطئة، أو جَبُن في لحظة ما، أو مارس الأنانية، أو الكذب، أو استغاب صديقه، أو خذل نفسه وخذل أحباءَه، أو وجد نفسه منقاداً للقطيع بلا إرادة.. ولكننا ندعي غير ذلك.. بعضنا يعيش بضمير مؤنب معذب، ولا يسامح نفسه على خطأ ارتكبه قبل سنين بعيدة، وبعضنا بلا ضمير.
ستتعب كثيراً إذا واصلت بحثك عن الكمال، وأبشّرك بأنك لن تصل.. وستكذب كثيراً حتى تظهر بالصورة المثالية التي يريدها لك المجتمع.. وستفشل حتماً إذا كان هدفك إرضاء كل الناس.. وستضيّع وقتك وجهدك في كتب التنمية البشرية، والاستماع للمواعظ.. لأنك ستظل أسير طبيعتك البشرية الضعيفة والهشّة..
اقبل بنقصك، سامح نفسك على أخطائك، وسامح غيرك على ما اقترفوه بحقك.. إذا جربت ذلك ستنال السكينة وستصل إلى الرضا، والتصالح مع الذات.. ستدرك حينها أن الحياة ممكن أن تكون أكثر بساطة، وأحلى.
ما تحتاجه أن تتخفف من أحمالك الثقيلة، وأن تتحرر من قيودك وأوهامك، وأن تتصرف على سجيتك، بلا تحفظات.. كُن إنساناً وحسب.

شاركها.