رغم انحياز إدارة ترامب الصريح لإسرائيل، إلا أنّ الرئيس الأميركي يبدو حريصًا في هذه المرحلة على إنجاح خطته لوقف الحرب، لا سيما بعد أن بات يدرك أن استمرار الفوضى سيهدد ما يعتبره “إنجازه الدبلوماسي الأبرز”. فالإدارة الأميركية، التي تقاطرت إلى تل أبيب بدءًا بـــ”ويتكوف وكوشنر”، تلاهما نائب الرئيس “فانس” ووزير الخارجية، تبذل جهدًا لاحتواء اندفاع نتنياهو وكبح جماحه، مصممةً على منع انهيار الاتفاق الذي يفترض أن يشكّل نقطة الانطلاق نحو مرحلة ما بعد الحرب.
تعكس هذه الزيارات رغبة إدارة الرئيس ترامب في ضبط السياسة الإسرائيلية الداخلية ومنع انهيار وقف إطلاق النار . وقد وصفت وسائل إعلام إسرائيلية هذا الحضور الأميركي المكثف ساخرَةً بأنه نوع من “الوصاية السياسية” على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
في المقابل، تواصل إسرائيل انتهاك الاتفاق يوميًا، وتستخدم قضية الجثامين كـ”قميص عثمان” لتبرير عدم المضيّ بالالتزامات المطلوبة منها في المرحلة الأولى، حيث تواصل إغلاق معبر رفح ومنع تدفّق المساعدات الإنسانية وبيوت الإيواء. ومع كل خطوة من هذا النوع، يتضح أن نتنياهو لا يسعى إلى تهدئة حقيقية بقدر ما يكرّس وقائع أمنية جديدة تتيح له السيطرة على غزة، سيما في سياق تلميح كوشنير الصريح أن مشاريع الإعمار المقبلة ستنفَّذ في “مناطق خارج سيطرة حماس”، وما يحمله من نوايا في تقسيم القطاع إلى رقعٍ متفاوتة الولاء والإدارة، تُدار كل منها بوصفةٍ “محلية” بإشرافٍ إقليمي أو دولي، ما يعني خلق واقعٍ سياسيٍّ موازٍ يكرّس الانقسام إلى ما لا نهاية.
الفراغ الفلسطيني ومخاطر الوصاية الدولية
حماس، رغم تأكيد حسم موقفها بعدم المشاركة في إدارة القطاع، وإعلانها توافقها مع الفصائل على صيغة ما يُعرف بلجنة الإسناد المجتمعي، إلا أنها لم تُظهر، ومعها الفصائل التي اجتمعت مؤخرًا في القاهرة، الجدِّية اللازمة لإبراز مدى الحاجة إلى توافقٍ وطني شامل في مواجهة التحديات الخطيرة تلك بتشكيل حكومة وفاق وطني، متذرعةً برفض الرئيس عباس هذه الصيغة التي حظيت بالإجماع الوطني والشعبي على حد سواء.
غير أنّ هذا الموقف، في نتائجه العملية، يعمّق الفراغ السياسي ويترك الساحة مفتوحة أمام ترتيباتٍ غامضة قد تنتهي إلى وصايةٍ دوليةٍ مقنّعة على غزة. فغياب، أو تغييب، أي مبادرةٍ فلسطينيةٍ جادة نحو حكومة الوفاق الوطني الموحّدة والمفوّضة من الجميع، وفقًا للقانون الأساسي للسلطة، يعزّز مساحة المناورة الإسرائيلية، لا لعزل غزة فحسب، بل لإعادة صياغة علاقتها بالضفة الغربية بما يعيد إنتاج التجزئة الجغرافية والسياسية، ويسهّل عملية الضمّ وتوسيع نطاق الاستيطان، ويكثّف إرهاب المستوطنين المتصاعد يوميًا بدعمٍ مباشر من قبل حكومة الاحتلال في التسليح والحماية على حد سواء.
وسط هذا المشهد، وما يحتاجه من رصٍّ للصفوف، يفاجئ الرئيس محمود عباس الشعب الفلسطيني وقواه السياسيّة والاجتماعية بإعلانٍ دستوري يخول نائبه صلاحيات الرئاسة في حال شغور المنصب، لاغيًا بذلك إعلان الضرورة الدستوري بتفويض رئيس المجلس الوطني، والذي رغم ما صاحبه من جدل، إلا أنه يتضمن مقاربةً تشريعيةً بفعل غياب المجلس التشريعي.
لقد أثارت هذه الخطوة الأخيرة جدلًا واسعًا حول التوقيت والمغزى، كما كرّست الانطباع بانغلاق الأفق الداخلي، الذي كان وما زال من الممكن أن يشكّل توافق الضرورة لحظةً واعدة لإحياء الأمل في تحمّل جميع الأطراف المسؤولية لمواجهة التحديات المصيرية التي تواجه القضية الفلسطينية، والتأسيس الفعلي لسلطةٍ شرعيةٍ موحّدة من خلال حكومة وطنية تشرف على توحيد الوطن ومؤسساته ، وفق أولويات يحددها التوافق الوطني تمهيدًا لإجراء الانتخابات في إطار زمني متفق عليه، بديلاً عن مراسيم تعمّق فجوة الانقسام في لحظةٍ يحتاج فيها الفلسطينيون إلى أقصى درجات الوحدة والاحتكام للمصالح الوطنية العليا، ونبذ المصالح الفئوية والأنانية الضيقة.
إنّ ما يحدث اليوم في الساحة الفلسطينية لا يمكن وصفه إلا بالفوضى السياسية، التي قد تحرف الأنظار عن متطلبات استراتيجية تعميق العزلة الدولية لإسرائيل، ودفعها نحو إنهاء الاحتلال وتمكين الفلسطينيين من تقرير مصيرهم الوطني. بل، وبمساعدة إدارة ترامب، قد تنجح حكومة الاحتلال في العودة إلى المشهد الدولي في مقابل طرفٍ فلسطيني غارقٍ في انقسامه وعجزه.
هذه المعادلة ليست قدرًا. فبإمكان الفلسطينيين قلبها متى ما امتلكوا رؤيةً وطنيةً جامعة تعيد تعريف المصلحة العليا على أساس وحدة الجغرافيا والنظام السياسي والمصير الوطني ومكانة المواطنين في هذه الرؤية.
فاتفاق وقف الحرب، وحتى الإغاثة والإيواء والإعمار، على أهمية ذلك كله، سيحصر المصير الفلسطيني في مجرد حلولٍ إنسانية، إن لم يكن جزءًا من مشروعٍ تحرّريٍ واضح، ولا مستقبل لأي سلطةٍ محليةٍ إن لم تكن نابعةً من إرادة الشعب ومعبّرةً عن حقوقه في الحرية والعدالة والمساواة.
الحاجة إلى تيار وطني جامع
المطلوب اليوم ليس حوارًا شكليًا جديدًا بين الفصائل، بل تنفيذ ما اتُّفق عليه، الأمر الذي يستدعي، ليس فقط كتلةً شعبيةً أو جبهة إنقاذٍ ضاغطة من أجل تحقيقه، بل والعمل الجاد لولادة تيارٍ شعبيٍّ عريض يحرّر المجتمع من الانقسامات ومن ثقافة التبعية، ويستعيد جوهر المشروع الوطني بوصفه مشروع حريةٍ وعدالةٍ ومساءلة.
تيارٌ يؤكد أن مكانة فلسطين في الضمير الإنساني ليست ورقة تفاوضٍ ولا مجرد بندٍ أمني، بل جوهر العدالة ذاتها التي لا يمكن مقايضتها بالمنح أو المشاريع.
مثل هذا التيار، بهويته الوطنية الديمقراطية الجامعة، سيّما من القيادات الشابة والنسوية التي حُرمت عبر عقدين من المشاركة السياسية، ومعهم كل المتضررين من الانقسام والمصالح الفئوية التي تكاد تعصف بالمصير الوطني، ينبغي أن يحمل مهمةً مزدوجة: مواصلة النضال من أجل إنهاء الاحتلال وجلب مجرمي الحرب الإسرائيليين إلى العدالة الدولية، كجزءٍ لا يتجزأ من تيار العدالة الكوني الذي باتت فلسطين بوصلته، وأن يحاسب في الوقت نفسه من خلال الانتخابات كل من أسهم في تهميش القضية أو إضعافها.
فالمحاسبة ليست مطلبًا قانونيًا فقط، بل هي واجبٌ وطني وأخلاقي لحماية مكانة فلسطين ومشروعها التحرّري من التبديد.
لقد آن الأوان لأن ندرك أن استمرار الفوضى والفئوية الفصائلية لا يخدم سوى مخططات حكومة الاحتلال، ويساهم في تفكيك عزلتها، وأن الطريق الآمن لمواجهة هذه التحديات يتمثل بإعادة بناء وحدة الإرادة الوطنية داخل النظام السياسي وخارجه، وما يفرضه من البدء بخطواتٍ جادّةٍ لبلورة تيارٍ شعبيٍّ متحررٍ من فئوية العقلية الفصائلية، بوصلته فلسطين وحريتها وعدالة قضيتها، والمساواة الكاملة بين كل مواطنيها؛ تيارٍ منظمٍ ومبادرٍ قادرٍ على تحويل هذه المأساة الكبرى إلى فرصةٍ تاريخيةٍ لإنهاء الاحتلال واستعادة فلسطين معناها الإنساني في الضمير العالمي الذي انتصر لشعبها، وكون هذا التيار جزءًا لا يتجزأ من تيار الحرية والعدالة الكوني.
