يومًا بعد يوم، يتضح أن إعلان قمة شرم الشيخ في أكتوبر 2025 “لوقف الحرب” لم يكن محطة لإنقاذ المدنيين في قطاع غزة، بل حلقة جديدة في مسلسل التوظيف السياسي على حساب المأساة الإنسانية للفلسطينيين. فإدارة ترامب لم تسعَ لإنقاذ أهل غزة من الإبادة، بقدر ما أرادت ضمان إنقاذ إسرائيل من عزلتها الدولية، وإعادة بناء صورتها الإقليمية والدولية بعد أن تكشفت جرائمها العنصرية. فالاعلان عن “وقف إطلاق النار” مَثَّل غطاء سياسي لإنقاذ حكومة تل أبيب أكثر من كونه وسيلة حقيقية لحماية المدنيين. فمنذ إعلان التهدئة وحتى اليوم، لم تتوقف الغارات أو عمليات القتل. وزارة الصحة الفلسطينية في غزة سجلت سقوط أكثر من 270 شهيدًا، أغلبهم من الأطفال، إضافة إلى آلاف الجرحى، فيما يظل القطاع تحت نيران مباشرة.
استمرار حصار غزة ومعبر رفح ومحور فيلادلفيا
ورغم نص الاتفاق على تشغيل فوري لمعبر رفح والمعابر الأخرى، فقد استمرت إسرائيل في إغلاقها كافة، بما في ذلك معبر رفح، وهو المعبر الوحيد الذي يسمح ببعض حركة المدنيين والمواد الإنسانية. تقديرات الأمم المتحدة “الأوتشا” تشير إلى أن ما يصل غزة لا يتجاوز 15–20٪ من الاحتياجات اليومية من الغذاء والدواء والوقود.
إضافة إلى ذلك، تواصل قوات الاحتلال السيطرة على محور فيلادلفيا، وتلمح إلى إمكانية “إلغاء الحدود” بين غزة ومصر، ما يحول القطاع مرة أخرى إلى سجن كبير بقيود عسكرية مطبقة بالكامل وبلا أية خيارات لحركة الأفراد أو التجارة الحرة، الأمر الذي يضاعف معاناة أهل القطاع ويبقيهم تحت رحمة جيش الاحتلال بصورة مطلقة.
المعاناة الطبية ومنع نقل الجرحى
في ظل هذه الظروف، يُمنع آلاف الجرحى من السفر لتلقي العلاج خارج القطاع. المستشفيات التي تعمل جزئيًا بالكاد تتمكن من التعامل مع الأعداد الهائلة والمتزايدة من الحالات الحرجة، بما فيها عمليات البتر للأطفال، ووفاة مرضى لم يحصلوا على أبسط الأدوية. كما أن حوالي 25٪ من الجرحى يواجهون إعاقات دائمة بسبب نقص المعدات الطبية وعدم القدرة على علاج الإصابات المركبة.
ملف الأسرى والجثامين وسجون التعذيب
وبينما يتركز اهتمام الإعلام الدولي على عدد محدود من الجثث الإسرائيلية المستعادة، يتجاهل مصير الفلسطينيين. فبعض جثث الفلسطينيين أعيدت وهي تحمل آثار تعذيب، وبعضها تعرض لسرقة الأعضاء، ولا تزال جثث الأرقام المحتجزة منذ عقود تفوق سبعمائة محفوظة في مقابر سرية أو ثلاجات الاحتلال. وفي الوقت نفسه، تستمر التقارير عن سجون تعذيب تتجاوز الرعب الذي شاهده العالم في سجن سديه تيمان، حيث مورست انتهاكات ممنهجة بحق المعتقلين الفلسطينيين، بما في ذلك فضائح الاغتصاب التي كُشف عنها.
الشتاء يفاقم المأساة الإنسانية
مع حلول الشتاء، تضاعفت معاناة الأهالي. مخيمات النازحين غرقت بمياه الأمطار، والخيام طفحت بالماء، والبرد القارس يفتك بالأطفال والمرضى وكبار السن، فيما آلاف العائلات تعيش بلا أي حماية، وسط استمرار الحصار ومنع وصول المساعدات الإنسانية.
التهجير عبر مطار رامون
رغم الحصار المشدد، تكشف تقارير إعلامية ودبلوماسية عن تهجير منظم عبر ما يسمى مطار رامون، من خلال شركات وهمية واستخباراتية، حيث وصل عشرات الفلسطينيين بصورة مفاجئة إلى جنوب أفريقيا، وهناك أنباء عن آخرين إلى إستونيا، في ما يشير إلى نية إسرائيل المضي في مخططات التطهير العرقي الصامت، وهو ما يفسر إصرارها على استمرار الحصار وإبقاء القطاع محرومًا من أبسط مقومات الحياة الإنسانية.
ارهاب المستوطنين والتطهير العرقي في الضفة الغربية
في الضفة الغربية، يستمر مسلسل الإرهاب الاستيطاني بحق الأهالي في القرى والبلدات الفلسطينية. فالمستوطنون، بدعم رسمي من الحكومة والجيش، يشنون يوميًا عمليات استهداف متكررة للمدنيين، ويحرقون المنازل ويهجرون السكان تدريجيًا، فيما تتعاون الأجهزة الأمنية الإسرائيلية معهم، مما يرسخ سياسة تطهير ديموغرافي تدريجي.
الانقسام الفلسطيني: خطر وجودي
في الأثناء، تنشغل السلطة الفلسطينية بمحاولات مزيد من التفرد والهيمنة عبر تغييرات شكلية في الوزراء والإدارات، بينما تحاول حماس الحفاظ على سلطة ضيقة في جزء من القطاع. الأمر الذي بات يشكل خطراً مستدامًا على وحدة الكيانية الوطنية ويمنع استعادة أطر جامعة لأي مشروع وطني قادر على مواجهة مخططات الاحتلال، بل ويمنح إسرائيل فرصة لتفكيك الكيانية الوطنية تدريجيًا ويشجعها على المضي بأهدافها في تصفية القضية والحقوق الفلسطينية.
مشروع القرار الأميركي في مجلس الأمن
تمرر واشنطن مشروع قرار في مجلس الأمن باسم “الحل السياسي”، لكنه في الواقع لا يهدف سوى لإرضاء إسرائيل من خلال نشر قوات دولية على الأرض تُكمل ما فشل الاحتلال في تنفيذه، وليس لحماية المدنيين من جرائمه المتواصلة. كما أن القرار يكرس تقسيم غزة إلى غرب محاصر ومدمر وشرق يُوعد بالإعمار المشروط، ويكرس فصل القطاع عن الضفة الغربية والقدس، مما يقوّض الكيانية الوطنية، ويعمّق الانقسام السياسي ويزيد من شرذمة التمثيل الفلسطيني.
التضامن الدولي ودرس خديعة أوسلو
الإنجاز الأهم الذي تمخض عن هذه الإبادة تمثل في تعرية طبيعة المشروع الصهيوني الدموية والعنصرية لدى الأغلبية الساحقة من شعوب العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، فلأول مرة تتهاوى الرواية الصهيونية أمام غزارة الدم الفلسطيني وفظائع الإبادة. وهو ما تحاول واشنطن وتل أبيب وبعض الحكومات الغربية احتواءه دون معالجة جادة لجوهر الصراع سوى بمجرد وعود سراب تعيد للذاكرة ما جرى بعد خديعة اتفاق أوسلو، لتضليل الفلسطينيين والمجتمع الدولي بمسار “السلام” الذي استهدف الالتفاف على إنجازات الانتفاضة الأولى، حيث تم بيع وهم “السلام” مقابل إدارة الاحتلال الذي نجح ليس فقط في تقويض أي فرصة لإحلال سلام عادل، بل وتمكن من التهام الأرض وترسيخ الاحتلال والاستيطان. أي محاولة مشابهة اليوم تتطلب حذرًا شديدًا حتى لا تتكرر الكارثة، والإبقاء على جذوة التضامن الدولي مع غزة، وتحويلها إلى ضغط سياسي حقيقي، مع تطوير خطاب فلسطيني موحّد يربط بين وقف الحرب والعدالة والحقوق الوطنية الفلسطينية، وفي مقدمتها حق العودة وتقرير المصير، وتمكين الشعب الفلسطيني من بسط سيادته الوطنية على أرضه المحتلة منذ الخامس من حزيران 1967، لبناء مستقبله الوطني في دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
جبهة إنقاذ وطني
تحقيق هذه الأهداف، وكي لا تبدد التضحيات الهائلة التي قدمها شعبنا، لم يعد يحتمل الانشغال في كل ما يتعارض مع المصالح الوطنية العليا، سيما سياسات التفرد والإقصاء والهيمنة الفئوية المقيتة. فقد آن الأوان لتشكيل جبهة إنقاذ وطني تضم كل الوطنيين المستعدين للانخراط في متابعة تنفيذ برنامج عمل موحد تحت قيادة فلسطينية موحدة، تتجاوز الانقسام وتعيد بناء التمثيل الوطني القادر على حماية الشعب فوق الصراعات الداخلية، واستنهاض كامل طاقات الفلسطينيين والقوى المتضامنة معه لضمان إنهاء الاحتلال واستعادة الحقوق الوطنية.
لحظة الحقيقة باتت ماثلة ولا تحتمل المراوغة. إما استثمار صمود غزة وتضامن العالم لبناء مشروع تحرر وطني، أو السماح للسياسات الدولية والصفقات الإقليمية بأن تعيد إنتاج الإبادة والتهجير تدريجيًا. الطريق إلى الحرية والكرامة يتطلب إرادة وطنية موحدة، رافضة للظلم والتقسيم، ومصممة على حماية شعبنا الفلسطيني في الداخل والخارج، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي تضم الجميع وتضمن التعددية في إطار وحدة الأهداف التي يجمع عليها شعبنا، كجبهة وطنية متحدة وقائدة لنضاله الوطني وممثل شرعي وحيد لشعبنا.
