في لحظة إيرانية مشبعة بالأسئلة الكبرى حول الهوية، والحداثة، ومستقبل النظام السياسي، أعاد الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي طرح رؤيته الفكرية والسياسية، محذرا من اختزال مفاهيم كبرى مثل «الحضارة الإسلامية» في شعارات أو قرارات إدارية، ومؤكدا أن طريق الخلاص لا يمر عبر نفي الغرب ولا عبر القطيعة مع التراث، بل عبر «الاجتهاد المزدوج» في الاثنين معا.
جاء ذلك خلال لقائه مع عدد من الإعلاميين والفنانين وأساتذة الجامعات، في تصريحات حملت في طياتها نقدًا عميقًا للخطاب السائد، ورسائل مباشرة إلى السلطة والنخب، فضلا عن قراءة دقيقة لتحولات المجتمع الإيراني، ولا سيما الجيل الجديد.
الحضارة: مفهوم معقّد لا يُختزل في شعار
انطلق خاتمي من تفكيك الخطاب المتكرر حول «بناء حضارة إسلامية»، معتبرا أن هذا الطرح يتجاهل الطبيعة التاريخية العميقة للحضارات، التي لا تُنشأ بالأوامر ولا بالتعاميم، بل تتشكل عبر مسارات طويلة من التفاعل الاجتماعي والفكري والتاريخي.
وضرب مثالا ساخرا بما نُقل عن بطرس الأكبر، الذي ظنّ أن تخلف روسيا سببه إطلاق اللحى، فأصدر تعميما بحلقها، من دون أن يؤدي ذلك إلى أي نهضة حقيقية. وهي استعارة أراد بها خاتمي نقد الذهنية التي تبحث عن حلول شكلية لأزمات بنيوية.
وتساءل بوضوح: ما المقصود أصلا بالحضارة الإسلامية؟ وما الفرق بين الثقافة والحضارة؟ وفي أي لحظة تاريخية يقف العالم اليوم؟ وهي أسئلة يرى أنها مغيّبة في النقاش الرسمي.
الغرب: الهيمنة من دون وعي… والغضب غير المنتج
في محور آخر، أقرّ خاتمي بأن الحضارة الغربية أصبحت حاضرة في صميم الحياة اليومية في إيران، من التكنولوجيا ونمط المدينة إلى شكل الدولة الحديثة، مذكّرا بأن حتى مفهوم «الجمهورية» نفسه مستمد من التجربة الغربية، وهو ما أشار إليه الإمام الخميني سابقا.
غير أن الإشكالية، بحسب خاتمي، تكمن في أن هذا التأثر بالغرب جرى من دون وعي عميق بجذوره الفكرية وأزماته، ما أوقع المجتمع في حالة اغتراب حضاري ممتدة منذ ما قبل الثورة الدستورية.
وانتقد بشدة تفريغ الغضب في الغرب والحداثة، سواء من منطلقات أصولية، أو قومية، أو حتى فاشية ويسارية، معتبرًا أن ذلك ليس سوى انتقال من حفرة إلى بئر أعمق، لأن هذه الاتجاهات نفسها هي نتاج الحضارة الغربية التي تدّعي نفيها.
الاجتهاد في التراث والحداثة… لا نفي أحدهما
قدّم خاتمي ما يمكن اعتباره جوهر أطروحته الفكرية، حين شدد على أن ما تفتقده إيران اليوم هو «الاجتهاد»، لا في التراث وحده ولا في الغرب وحده، بل في الاثنين معا.
فهو يدعو إلى نقد الحضارة الغربية من دون إنكار منجزاتها الكبرى، وفي الوقت نفسه نقد التراث من دون القطيعة معه، محذرا من وهم العودة إلى ما قبل الحداثة، التي لا يمكن إحياؤها ولا تصلح لحل أزمات الحاضر.
وفي هذا السياق، أشار إلى أن الغرب نفسه يواجه أزمة حضارية عميقة، تتجاوز الأزمات الاقتصادية، وأن مفكري ما بعد الحداثة يعملون على تفكيك أسس الحداثة ذاتها، مؤكدا أن الحضارة الغربية ليست «نهاية التاريخ»، وأن العالم مقبل حتما على تحولات حضارية جديدة، وإن كانت ملامحها لا تزال غير واضحة.
الجمهورية الإسلامية: بين الفكرة والتطبيق
سياسيا، أعاد خاتمي التأكيد على أن «الجمهورية الإسلامية» كانت المخرج الإيجابي لثورة كبرى، مميزا إياها عن تجارب الحركات الإسلامية التي انتهت إلى نماذج الخلافة أو «إمارة المؤمنين»، والتي وصف نتائجها بالكارثية.
وشدد على أن حل كثير من أزمات إيران يكمن في قيام جمهورية إسلامية تستوفي الحد الأدنى من معايير الجمهورية المتعارف عليها عالميا، وتتوافق فيها قراءة الإسلام مع إرادة الشعب، وحقوق الإنسان، ومسؤولية السلطة أمام المؤسسات المنتخبة.
وذهب أبعد من ذلك بالقول إن كثيرا من المثقفين والناس ما كانوا ليصوتوا للجمهورية الإسلامية لو كانوا يعلمون بما ستؤول إليه الممارسات لاحقا.
الأمن والاقتدار: الشعب هو الأساس
في حديثه عن الأمن والاقتدار، رفض خاتمي حصر القوة في بعدها العسكري، معتبرا أن الاقتدار الحقيقي يستند قبل كل شيء إلى رضا الشعب، ومشاركته، وضمان حقوقه، وبناء اقتصاد قوي، ومكافحة الفقر والفساد.
وانتقد بوضوح السياسات القائمة على الإقصاء والتطهير والتوحيد القسري، سواء عبر تقييد المشاركة أو عبر آليات قبول ورفض الصلاحيات، معتبرًا أنها تقوّض أسس الاستقرار والتنمية.
وفي ختام تصريحاته، توقف خاتمي عند التحولات العميقة التي أحدثتها التكنولوجيا والاتصال والذكاء الاصطناعي، مشيرا إلى تراجع المرجعيات التقليدية، وحتى إلى اهتزاز مفهوم الدولةالأمة نفسه.
وأكد أن الجيل الجديد يختلف جذريا في معتقداته وتطلعاته عن الأجيال السابقة، لكنه في الوقت نفسه لا يزال مرتبطا بالوطن ومصيره، وفق ما تشير إليه استطلاعات الرأي، وهو ما يستدعي – برأيه – مقاربة جديدة تتجاوز أدوات الماضي.
الإصلاح… الخيار الأقل كلفة
خلاصة موقف خاتمي جاءت واضحة: لا طريق سوى الإصلاح. فبين إسقاط النظام، أو الراديكالية، أو الإصلاحات التدريجية، يرجّح أن تختار الأغلبية – بعيدا عن الانفعالات – طريق الإصلاح، باعتباره الخيار الأقل كلفة والأكثر فائدة.
تصريحات خاتمي، وإن بدت فكرية الطابع، تحمل في عمقها نقدا سياسيا صريحا للمسار القائم، ورسالة تحذير من استمرار تجاهل التحولات الاجتماعية، وتأكيدا على أن الأزمة الإيرانية ليست في غياب الشعارات، بل في غياب الثقة، والمشاركة، والاجتهاد الحقيقي.
