على أقلّ من مهلهم يتحرّك الوسطاء الذين وقّعوا الاتفاق الذي فرضه رئيس أميركا دونالد ترامب على كلّ الأطراف.
اجتماع آخر في ميامي، يصدر عنه بيان غامض، لا ينطوي على إجراءات عملية ملموسة.
خلال الفترة الممتدّة منذ دخول «خطّة ترامب» حيّز التنفيذ في 10 أوكتوبر هذا العام، لم تتوقّف دولة الاحتلال عن اعتداءاتها وخروقاتها المتعمّدة للحظة، بهدف تعطيل إمكانية الانتقال إلى المرحلة الثانية من الخطّة، منذ ذلك الوقت ارتقى أكثر من 400 شهيد من المدنيين، وأكثر من 1100 مصاب، عدا ذلك تواصل قوات الاحتلال، تدمير ما تبقّى من منازل في المنطقة التي تسيطر عليها، بهدف تسوية كلّ حجر، وكلّ شجرة بالأرض.
لا نعرف إذا ما كانت الخطة تعطي دولة الاحتلال الحرّية والحق في أن تفعل ما تقوم به في المنطقة التي يسيطر عليها جيشها الفاشي.
يتحدّث بيان ميامي عن توسّع في إيصال المساعدات لسكان قطاع غزّة، وعن إتمام تسليم الأسرى والجثث، باعتبار ذلك إنجازاً كبيراً، ولكن البيان لا يتحدّث عن عدم التزام دولة الاحتلال بإدخال المساعدات بالأعداد والمواد، التي تحدثت عنها الخطة.
لا «كرفانات»، ولا معدّات ثقيلة أو خفيفة، ولا أغطية ولا ملابس ولا أدوية إلّا بما أقلّ من الحدّ الأدنى، فيما يواجه الناس موسماً غزير الأمطار والمنخفضات الجوّية العميقة، التي أغرقت الخيام البالية، وضاعفت من آلام وأوجاع النازحين.
المشاهد التي تنقلها الفضائيات، ووسائل التواصل الاجتماعي لأحوال الناس تُدمي القلوب، ولكنها لا تحرّك ساكناً لدى من يملكون الحلول المناسبة.
لم تتوقّف فصول حرب الإبادة عَبر منع وصول المواد والوسائل المنقذة للحياة لسكان أنهكتهم حرب بشعة على مدار سنتين ونزوح متكرّر، ودمار لا يتوقّف يطال كلّ شيء.
ثمّة عقبات أمام الانتقال إلى المرحلة الثانية، والموقّعون على بيان ميامي، وقبلها على الخطّة يعرفون بالضبط أن دولة الاحتلال هي المسؤولة عن تنفيذ المراحل المقبلة منها، ولكنهم ينتظرون ما يمكن أن يقدّمه بنيامين نتنياهو المطلوب لـ»الجنائية الدولية» الذي يفترض وصوله إلى البيت الأبيض نهاية هذا الشهر، بينما كانوا سيصبّون جام غضبهم لو أنّ الطرف الفلسطيني هو المسؤول عن تعطيل الخطة.
جيش الاحتلال الفاشي يعلن ويقيم منشآت ثابتة في المنطقة التي يحتلها، ويقول إن «الخطّ الأصفر» هو الحدود الدائمة للقطاع، وبينما لا يجرؤ نتنياهو على القول إنه حقّق الانتصار الذي وعد به، لا يتوقّف عن محاولة خلق الذرائع، ومواصلة الاستفزازات، والتحضير لتوسيع دائرة الحرب الإجرامية في المنطقة.
وطالما أن الجهد الضخم المموّل الذي تقوم به دولة الاحتلال وأنصارها في أميركا، يفشل في تغيير السرديّة التي تتهاوى يوماً بعد الآخر، فإنّها ستواصل حروبها العدوانية ظناً منها أنها تعيد هيكلة الشرق الأوسط، وتدافع من موقع المسؤول عن الحضارة الغربية المتهاوية هي الأخرى.
إذا كان ما قامت وتقوم به دولة الاحتلال من حروب، وانتهاكات للمواثيق والقيم الدولية، وارتكاب المزيد من المجازر والجرائم، يشكّل أحد عناوين وهويّة الحضارة الغربية، فالويل لهذه الحضارة وأهلها.
ها هي أميركا ترسم إستراتيجية لأمنها القومي، تتخلّى من خلالها عن واجباتها الدفاعية عن أوروبا.
الإستراتيجية في جوهرها لا تحترم تحالفات ثابتة، وشعار أميركا أوّلاً، ينطوي على بُعد أناني، يقوم على أن لا لزوم لأيّ حليف أو تحالف، يكلّف الولايات المتحدة أيّ أعباء.
فليذهب «الناتو» إلى الجحيم، ولتذهب أوروبا الموحّدة إلى الانقسام وانفراط عقدها، طالما لا تستطيع تحمل نفقات الدفاع عن نفسها.
في روح الإستراتيجية ما يشير إلى أن إدارة ترامب تسعى خلف تسويات مع الدول الكبرى: الصين، وروسيا، وتقوم بابتزاز حلفائها القدامى بما في ذلك تايوان وأوكرانيا، طالما أن استمرار التحالف مكلف للخزانة الأميركية.
حتى الآن دولة الاحتلال هي الكيان الوحيد الذي يحظى بالرعاية واستقبال المساعدات والحماية من أميركا، ولكن هذا الوضع قابل للتغيّر في حالة واحدة. تغيير هذا الوضع مرهون بإرادة عربية غائبة حتى الآن، إذ إن العرب يملكون الثروات والأموال التي تضع ترامب وإدارته أمام خيار، إمّا أن يستمرّ بالصرف على الكيان وخسارة الثروة العربية، وإمّا أن يفعل العكس.
أوروبا التي تخلّفت لعقود طويلة عن تحمّل المسؤولية الذاتية عن حماية أمنها واستقرارها، من خلال امتلاك قدرات عسكرية خاصة بها رادعة، أوروبا اليوم ترتجف خوفاً من التهديد الروسي، وفي ضوء انعدام الخيارات. ألمانيا أقوى دول أوروبا اقتصادياً اتخذت جملة من الإجراءات المكلفة مالياً، لتطوير وتعزيز قدراتها العسكرية. لكنّ ثمّة شكاً كبيراً في أن تنجح هي وشركاؤها في إغلاق الثغرة الكبيرة التي يُحدثها الانسحاب الأميركي.
إذا أرادوا استمرار الحماية، فإن عليهم أن يموّلوا الحروب التي تنشأ في أماكن مختلفة، وتنطوي على تهديد ولو محدوداً على أمن أوروبا.
ومعلوم أن الأوروبيين هم الذين يتحمّلون تكاليف السلاح الذي يذهب إلى أوكرانيا، حيث يشترون السلاح الأميركي، لصالح أوكرانيا، التي وجدت نفسها أمام مُنعرَج خطير على خلفية خطّة ترامب العشرينية، التي تجيز لروسيا الاحتفاظ بأراضٍ واسعة من أوكرانيا.
الوقت يضيق بالنسبة لزيلينسكي، والاعتراضات الأوروبية على خطة ترامب للسلام، أخذت تتهاوى، وفي كل الأحوال سيكون على زيلينسكي أن يسلّم أجزاء واسعة من بلاده لروسيا، وأن يرهنها وثرواتها لأميركا، وفي حال اختار التمرّد فإن العواقب وخيمة على بلاده وعلى أوروبا.
المنظور في اتجاهات تغيير وتطوّر السياسات العالمية يشير إلى أن أوروبا عليها أن تعيد صياغة هويّتها، التي قامت على مبادئ وقيم العدالة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، بعد أن تخلّت عنها واقتفت أثر أميركا التي استخدمت هذه المنظومة، كأداة لشنّ الحروب والسيطرة على ثروات الشعوب.
الخيار الوحيد أمام أوروبا هو أن تعيد صياغة علاقاتها مع دول العالم الثالث، على أسس نزيهة، وصادقة وبمنطق الشراكات الحقيقية، والتخلّي عن الإرث الاستعماري.

شاركها.