لا تزال غزة تعيش على وقع أصوات الانفجارات وأخبار الدمار التي تتوالى ساعة تلو الأخرى. تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة، التي تباهى فيها بتدمير 50 برجاً سكنياً خلال يومين فقط، فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من الحرب المستمرة منذ نحو عامين. فالتصريحات لم تقتصر على الحديث عن الضربات الجوية، بل حملت إشارات واضحة إلى أن العملية البرية باتت قريبة، وهو ما يزيد من مخاوف الفلسطينيين ويطرح أسئلة حول أهداف إسرائيل الحقيقية والانعكاسات الإقليمية والدولية لهذه الخطوات.

دمار الأبراج السكنية.. مقدمة للتصعيد

أعلن نتنياهو أن سلاح الجو الإسرائيلي دمّر خلال يومين فقط 50 برجاً سكنياً في قطاع غزة، واصفاً هذه الضربات بأنها مجرد “تمهيد” لما أسماه المناورة البرية القادمة داخل مدينة غزة. وأضاف في خطاب ألقاه من مقر سلاح الجو: “لقد وعدت بالقضاء على الإرهاب، وهذه فقط البداية.”

ترافق ذلك مع تجديد وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس تهديداته عبر منصات التواصل، متوعداً غزة بـ”إعصار هائل” يضرب سماءها، في لغة عسكرية حادة ترافقت مع رسائل مباشرة إلى حركة حماس، إما بالإفراج عن الرهائن وإلقاء السلاح أو مواجهة “تدمير كامل للقطاع”.

إنذارات بالإخلاء قبل القصف

شهدت مدينة غزة خلال الأيام الأخيرة تكثيفاً غير مسبوق للقصف الجوي، ترافق مع توجيه إنذارات متكررة لسكان الأبراج السكنية لإخلائها قبل استهدافها.

يوم الأحد، دعا الجيش الإسرائيلي سكان محيط برج الرؤيا في شارع جامعة الدول العربية إلى الإخلاء قبل قصفه، بحجة وجود “بنى تحتية تابعة لحماس”. وبعد ساعات، تحوّل البرج إلى ركام وسط مشاهد من الذعر والهلع.

خلال يومي الجمعة والسبت، لقي برج مشتهى وبرج السوسي نفس المصير، حيث تم تدميرهما بعد إنذارات بالإخلاء.

هذا النهج بات يمثل سياسة واضحة للجيش الإسرائيلي ضمن ما يعرف بعملية “عربات جدعون 2″، التي تستهدف الأبراج السكنية بشكل خاص، تحت ذريعة استخدامها لأغراض عسكرية، وهو ما تنفيه الفصائل الفلسطينية.

المنطقة الإنسانية.. واقع مثير للجدل

في مقابل مشاهد الدمار، أعلن نتنياهو أن إسرائيل خصصت “منطقة إنسانية” جديدة في منطقة المواصي جنوب القطاع، لتكون ملاذاً آمناً للمدنيين، حسب وصفه. الجيش الإسرائيلي أكد أن هذه المنطقة يتم تزويدها بالغذاء والدواء، داعياً السكان إلى التوجه إليها.

غير أن منظمات حقوقية ترى في هذه الخطوة شكلاً من أشكال الضغط والتهجير القسري المقنّع، في ظل انعدام الظروف الإنسانية الملائمة، واستمرار القصف حتى في المناطق التي تصنّفها إسرائيل بأنها “آمنة”.

خطاب موجه لسكان غزة

اللافت في خطاب نتنياهو الأخير كان حديثه المباشر إلى سكان القطاع: “استمعوا جيداً، لقد حُذّرتم، اخرجوا من هناك.”
لكن السؤال المطروح.. إلى أين يخرج سكان غزة؟ القطاع محاصر منذ سنوات، ومعبر رفح هو المنفذ الوحيد نحو مصر، والقاهرة ترفض بشكل قاطع أن يتحول إلى بوابة لتهجير الفلسطينيين.

عملية عسكرية جديدة على الطاولة

يرى اللواء محمد حمد، الخبير الاستراتيجي، أن خيار العملية البرية لم يعد مجرد ورقة ضغط إعلامية، بل أصبح مطروحاً بجدية. غير أن التنفيذ الفعلي قد لا يكون وشيكاً، فإسرائيل تدرك أن أي توغل بري سيكلّفها خسائر بشرية وعسكرية جسيمة، وهو ما اختبرته في مواجهات سابقة. لذلك قد تعتمد تل أبيب على إستراتيجية “التدرج” عبر تكثيف القصف الجوي ومحاصرة مناطق محددة قبل الإقدام على أي عملية شاملة.

خطاب نتنياهو وسكان غزة

إحدى النقاط المثيرة للجدل كانت مطالبة نتنياهو لسكان غزة بمغادرة القطاع. الخبير حمد يصف هذا الخطاب بأنه “نفسي أكثر من كونه عملياً”، فغزة محاصرة منذ سنوات، ولا يملك أهلها منفذاً آمناً للمغادرة باستثناء معبر رفح مع مصر، وهو ما ترفض القاهرة بشكل قاطع أن يتحول إلى بوابة لتهجير الفلسطينيين. من هنا تبدو الدعوات الإسرائيلية غير قابلة للتنفيذ عملياً، بل أقرب إلى محاولة زرع الذعر ودفع المدنيين لممارسة ضغط داخلي على الفصائل.

أبعاد إقليمية ودولية

أي عملية برية واسعة لن تمر دون تداعيات خارجية. يشير حمد إلى أن إسرائيل تواجه بالفعل انتقادات متزايدة بسبب سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين، ما يجعل أي تصعيد إضافي محفوفاً بالمخاطر. نتنياهو، وفق التحليل، يسعى إلى تحقيق توازن صعب.. تصعيد محسوب يعزز صورته أمام الداخل الإسرائيلي دون أن يؤدي إلى عزلة خانقة على الساحة الدولية.

 

بين لغة التهديدات التي يطلقها نتنياهو وكاتس، وواقع الميدان في غزة، تبدو الأمور متجهة نحو تصعيد أكبر. الحديث عن عملية برية قد يكون محاولة للضغط النفسي أو مقدمة لخطوة فعلية، لكن المؤكد أن الوضع الإنساني في القطاع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم.

التهجير الجماعي الذي تلوّح به إسرائيل يبدو مستبعداً عملياً، في ظل الرفض المصري والعربي، والرقابة الدولية المتزايدة. ومع ذلك، يبقى المشهد مفتوحاً على احتمالات خطيرة، حيث تلعب إسرائيل على حافة الهاوية بين تحقيق مكاسب سياسية داخلية وتجنب مواجهة إدانة دولية واسعة.

شاركها.