حروب العشرية الثالثة (11)… سما الإخبارية
لن تتضح حقيقة الأيام الأخيرة لنظام آل الأسد قبل مرور وقت طويل. ثمة معلومات وفتات معلومات، وقد تعكس جانباً من حقيقة حادثة بعينها، ولكنها تظل جزئية، ولا تنجو في كل الأحوال مما يكتنف اللحظة التاريخية نفسها من غموض يُحرّض على أنواع مختلفة من التأويل والتخمين. وأهم المناطق الرمادية، بقدر ما أرى، هي الأيام العشرة، التي احتاجها المهاجمون للزحف من إدلب إلى دمشق (بلا قتال من ناحية فعلية) وتليها من حيث الأهمية ملابسات فرار رأس النظام بطريقة تبدو مهينة تماماً.
بداية، سورية نقطة تقاطع مركزية لكل موازين القوى في الجغرافيا السياسية لبلاد الشام. فوجود نظام ما في دمشق، وديمومته، واستقراره، يعتمد على عوامل إقليمية ودولية، ولا يقتصر على شرعية النظام، وكفاءة الحاكم، بالمعنى الحصري للكلمة. وفي سياق كهذا، نضع عشرين انقلاباً، ومحاولة انقلابية، شهدتها البلاد على مدار 24 عاماً ما بين إعلان الاستقلال 1946 واستيلاء حافظ الأسد على السلطة، بعد الانقلاب على رفاقه، في العام 1970.
وفي السياق نفسه، نضع سلسلة حروب داخلية خاضها، على مدار ثلاثين عاماً، حتى وفاته في العام 2000، وتخللتها مجازر وحشية كما حدث في حماة 1982. ويجب اعتبار دولة المخابرات، التي جعل منها درعاً أمنياً لدولة الطائفة، جزءاً من حروبه الداخلية، أيضاً، ناهيك عن التعامل مع الدولة بمنطق «الأهل والغنيمة» (التعبير لوضّاح شرارة، الذي وظّفه في تحليل نظام العائلة في مكان آخر).
كان استغلال الوظيفة العمومية في بيروقراطية الدولة، والجيش، والمخابرات، للتكسّب غير المشروع في عالم السمسرة والبزنس سمة رئيسة من سمات الأولاد والأقارب وكبار قادة الجيش والأجهزة الأمنية. باسل مات وفي رصيده مئات الملايين من الدولارات، وبشار هرب ومعه مليارات، وماهر كان من كبار منتجي وتجّار الكباتغون.
على أي حال، لم تكن الحروب الداخلية، وسياسات «الأهل والغنيمة» هي العامل الحاسم في ديمومة نظام الدولة الأسدية، بل العوامل الإقليمية والدولية، التي أجاد الأسد الأب الاستفادة منها، وقراءة تحوّلاتها. والمفارقة، في هذا الشأن، أن أوراق العلاقة بإسرائيل والولايات المتحدة، التي احتفظ بها كبوليصة تأمين، هي الأوراق نفسها التي أدى سوء اللعب بها من جانب وريثه إلى الإطاحة بدولته، وفراره بطريقة مهينة من دمشق.
لم تكن علاقة الدولة الأسدية بالأميركيين والإسرائيليين طبيعية (ولم تكن علاقة العميل بمشغّليه، كما يحلل البعض) بل اتسمت بفترات مد وجزر، معطوفة على ثوابت تجلّت مع مرور الأيام، وفي القلب منها تفادي المجابهة في معارك «كسر العظم»، والاستعداد الدائم لتقديم خدمات مقابل عوائد اقتصادية وسياسية.
فعلى الرغم من بلاغة ومبالغات الدعاية القومية للنظام، إلا أنه لم ينتهك وقف إطلاق النار في الجولان، على مدار خمسين عاماً بالتمام والكمال. وفي المقابل، ثمة ما يبرر النظر إلى أولويات الإسرائيليين، الذين «تخوّفوا» من الإطاحة بالأسد الابن ونظامه بعد نجاح الثورة السورية في الاستيلاء على مساحات واسعة من سورية في السنوات الأولى للثورة، وكلام الرئيس الأميركي أوباما عن «ضرورة تنحي الأسد» كنوع من «المكافأة».
نال الأسد الأب «مكافأة» احتلال لبنان، في العام 1976 بعدما تدخّل عسكرياً لعرقلة ترجيح كفة ما عُرف بالقوى الوطنية والتقدمية، آنذاك، في الحرب الأهلية. ونال مكافأة المساعدات الاقتصادية، وتحسين وضعه السياسي في الإقليم والعالم، بعد التحاقه عسكرياً بالحلف المعادي لصدام حسين، في حفر الباطن، والمشاركة في حرب تحرير الكويت 1991. وربما كانت الثغرة الوحيدة التي لم يتمكن من سدها قبل وفاته، لتأمين ديمومة حكم الابن، هي تطبيع العلاقة مع إسرائيل.
ولنلاحظ، هنا، أن السنوات الأولى، التي أعقبت انتقال سورية من حكم الأب إلى الابن، شهدت تعاوناً وثيقاً، في المجال الأمني، وما عُرف في العشرية الأولى، بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، بالحرب على الإرهاب، بين النظام والأميركيين. ويبدو (هذا ما تقع مسؤولية بحثه، والبت فيه، على عاتق المؤرخين السوريين، في حال العثور على وثائق النظام) أن فترة ما بعد التدخل الكثيف للإيرانيين (2013) والروس، قد أفقدت النظام مرونة الحركة، وحريّة المناورة، وبالتالي لم تعد قدرته على اللعب بأوراق البقاء الإقليمية والدولية في أفضل حالاتها.
كان الابن أقل كفاءةً من أبيه بما لا يُقاس، ناهيك عن حقيقة أن النظام تحلل، وازداد وحشية، فما كان في زمن الأب مجرّد تشقق في شرعية النظام صار شرخاً واسعاً يصعب حجبه، والعثور على الوسائل المناسبة للتقليل من أضراره. والأهم من هذا وذاك، أن هجوم السابع من تشرين أوّل (أكتوبر) 2023 قلب الشرق الأوسط رأساً على عقب. وكان هذا أكبر من طاقة النظام على الاستيعاب والاستجابة، على الرغم من الحرص على عدم تفعيل جبهة الجولان (بقدر ما يستطيع) والامتعاض من المجابهة التي فتحها حزب الله على الجبهة اللبنانية (بقدر ما يستطيع).
على خلفية كهذه، يمكن التفكير في أمور من نوع: أن مستوى اللعب بما يضمن ديمومة واستقرار النظام، قد تدهور إلى مستوى اللعب بما يضمن سلامة الأفراد، بعد اليأس من النظام، تجلى الأمر في عمليات «بيع» سبقت مزاد الأيام الأخيرة بسنوات، وشهدت «بيع» لبنانيين وإيرانيين وسوريين في عمليات غامضة وواضحة على الأرض السورية. مَنْ باع مَنْ في الأيام الأخيرة لكبار اللاعبين الأميركيين والأتراك والإسرائيليين؟ هل باع الأسد الابن الجيش والعائلة؟ أم الجيش هو الذي باع الأسد الابن والعائلة؟ فاصل ونواصل.