حروب العشرية الثالثة (21)..
حروب العشرية الثالثة (21)..
2025 Mar,04
يتماهى أعضاء النواة الصلبة لأنصار ترامب في الولايات المتحدة مع تلميحاته العنصرية، ونرجسيته، وتعجبهم نزعته المسرحية، حتى وإن تجلّت كتهريج رخيص، بل وثمة ما يبرر القول إن الصفات المذكورة، وما يدخل في حكمها، هي التي أقنعتهم بالالتفاف حوله، و»عبادته» بطريقة تبدو غير مفهومة للآخرين.
ومن سوء الحظ أن المذكور هو حصان الرهان الرابح في نظر الحكّام، ومالكي وممولي المنصّات الإعلامية، بمختلف أنواعها في العالم العربي.
لذا، يندر إخضاع تلميحاته، وما يتجلى في شطحاته السياسية، في حالات بعينها، كنوع من الهذيان الخالص، للتفكير والتدبير، بما يتجاوز وضعها في خانة الاستثنائي، وغير المألوف، وغير القابل للتنفيذ.
ولنا في كلامه عن استملاك غزة، وتهجير أهلها، وتحويلها إلى منتجع لأغنياء (اقرأ: لصوص) الشرق الأوسط، والعالم، خير برهان ودليل.
تناولنا في مقالة سبقت ما سميناه المخيال العقاري. وما نعالجه، اليوم، يندرج في الباب نفسه، ولكن بما يتجاوز السائد والمُتداول.
فقد ترددت مفردات التطهير العرقي، في تحليلات مختلفة للهذيان الترامبي عن استملاك غزة، ولكن الإطار العام للكلام في هذا الموضوع، والذي تمحور حول قضايا التعمير، لم يخرج عن المخيال العقاري، وحقيقة أن التطهير سواء أكان عرقياً أم ثقافياً هو مكوّن عضوي من مكوّناته.
يمكن التدليل على أمر كهذا، بنماذج تمثيلية في الحواضر، ومدن الملح على حد سواء.
والمفارقة أن صعود ترامب كتاجر عقارات اقترن بهدم بناية «تاريخية» (يعني من القرن التاسع عشر) في نيويورك، بنى على أنقاضها «برج ترامب».
ومع ذلك، الأهم من هذا كله لا يتمثل في: هل «خطة» ترامب قابلة للتنفيذ، أو هل تتوفر «خطة» بديلة؟ بل في تطبيع فكرة التطهير العرقي نفسها، ووضعها على الطاولة كمفردة قابلة للتداول، والأخذ والرد.
وإذا شئنا العثور على مداخل جيّدة، فعلاً، لتفسير الأسباب التي حالت دون التركيز على مخاطر الهذيان العقاري الترامبي، بوصفه مدخلاً لتطبيع فكرة التطهير العرقي، فلا ينبغي الابتعاد عن فرضيات من نوع: أن لا إمكانية للتفسير خارج الإطار التاريخي والسياسي للصراع في فلسطين وعليها. وهذا ما يصدّع رؤوس «العرب» في الوقت الحاضر.
ستتجلى أهمية ما ذهبنا إليه، في هذا الشأن، إذا ما نظرنا إليه معطوفاً على كلام ترامب عن ضآلة حجم إسرائيل، بالمعنى الجغرافي للكلمة.
وقد تكلّم عن الحجم الصغير، بطريقة مسرحية، في سياق الرد على سؤال حول إمكانية ضم الضفة الغربية، ومثّل لضآلة الحجم بقلم في يده مقارنة بطاولة يجلس إليها.
المشكلة، هنا، أن ضآلة الحجم تعيد أشباحاً فكّر ما لا يحصى من الناس منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أنها دفنت تحت الركام في حرب أزهقت أرواح الملايين، ودمّرت أوروبا، بالمعنى الفعلي للكلمة، لأن بعض القوميين الرومانسيين عثروا في فكرة وهمية تنتمي إلى إمبريالية القرن التاسع عشر، عمّا يبرر الاستيلاء على أراضي الغير.
في تضافر فكرة التطهير العرقي، وقد صارت على الطاولة، مع الحجم الضئيل للدولة الإسرائيلية، مقارنة بالعالم العربي، ما يُعيد إلى الذهن فكرة قديمة راودت أوائل المستوطنين الصهاينة في فلسطين في مطلع القرن الماضي، في معرض التفكير في حلول محتملة للسكان الأصليين، وإمكانية نقلهم إلى بلدان عربية مجاورة.
ورغم انسحاب الفكرة المعنية إلى الهامش في العقود القليلة الماضية، إلا أن عودتها، في الآونة الأخيرة، تنتمي إلى عودة المسكوت عنه، الذي أطلقته الحرب الأخيرة من عقاله.
بمعنى أكثر مباشرة: في هذيان الاستملاك الترامبي، بما يعني من تطبيع للتطهير العرقي، وفي ضآلة الحجم الجغرافي، بما تعني من عودة للمسكوت عنه، ما يفسّر الواقع بطريقة مُفزعة، فعلاً، ويحض على قرع أكثر من جرس للإنذار، وما ينفتح على كارثة محدقة.
وقد شخّص بيني موريس ملامح الكارثة فيما يشبه نبوءة سوداوية على النحو الآتي: «وإذا لم تُحل المشكلة الفلسطينية التي أعادها هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى وعي العالم ووعينا، ولم يتم التوصل إلى حل الدولتين، الذي وحده يساعد (على الرغم من أنه يبدو اليوم وهمياً خالصاً)، فإن الإبادة الجماعية آتية، والطرف القوي طبعاً هو الذي سينفذها».
نشر موريس هذا الكلام في الثلاثين من كانون الثاني الماضي، في جريدة هآرتس.
لا ضرورة للانخراط في سجالات غير مجدية الآن حول إمكانية حل الدولتين، ولا ضرورة للتذكير بسيرة موريس المهنية والأيديولوجية.
كل ما في الأمر أن الجو العام في إسرائيل أوصله إلى تشخيص كهذا، وأن هذا التشخيص ينسجم مع شواهد كثيرة تراكمت منذ اندلاع الحرب، التي لم تتوقف بعد.
تبدو نبوءة موريس السوداوية مفهومة بشكل أفضل، وفي البال ما ذهبنا إليه بشأن الدلالات المنسية، أو المسكوت عنه، في الهذيان الترامبي عن استملاك غزة، وضآلة إسرائيل، بالمعنى الجغرافي.
لا ينفتح الأفق، في الحالتين، عمّا هو أبعد من الإبادة. بهذا المعنى، تتضح دلالة الإجرامي، والدموي، والوحشي، في المخيال العقاري.
وبهذا المعنى، أيضاً، وطالما أن ثمة قمة عربية طارئة، للرد على «خطة» ترامب، ستعقد اليوم في القاهرة، فلا بد من التذكير بأن لا فائدة من الرد على «خطة» عقارية «بخطة عقارية» مضادة، وأن لا معنى للصراع في فلسطين وعليها بمفردات المخيال العقاري، ولغة الإعمار والتعمير بدلاً من لغة السياسة، والحقوق، والمرجعيات القانونية والدولية ذات الصلة. فاصل ونواصل.