حروب العشرية الثالثة (36) ..حسن خضر

2025 Jul,08

ثمة ما يستدعي سؤال كفافي، وتعليقه اللامع، لبلورة فرضية وثيقة الصلة بالحاضر. السؤال: «ماذا سنفعل بلا برابرة؟»، والتعليق: «لقد كانوا نوعاً من الحل». «في انتظار البرابرة» قصيدة معروفة، ومتداولة، على نطاق واسع، وهي، في كل الأحوال، مسكونة بدلالات فلسفية وسياسية من عيار ثقيل. ومن حسن الحظ أنها مفيدة تماماً لغرض هذه المعالجة.

البرابرة، هنا، هم الآخر في كل محاولة لبلورة كينونة لا تتجلى إلا كفعل من أفعال النفي والتضاد. وبناء عليه، فهم العدو الوهمي والمتوهّم، الشيطان بالمعنى اللاهوتي، ومائة عدو وعدو آخر. ولأنهم كذلك، فهم، بمعنى ما، كينونة مفتعلة، وينبغي اختراعهم، أيضاً.
هذه فكرة مزعزعة تماماً، بطبيعة الحال. ويمكن أن تتضح دلالتها في الحال إذا افترضنا أن مشروع شيطنة إيران بعد العام 1979، الذي تجلى، وما زال، كسردية كبرى لتاريخ الشرق الأوسط، وصراعاته، على مدار خمسة عقود مضت، يندرج في الإطار الفلسفي والسياسي لفكرة اختراع البرابرة، وينفتح على أسئلة محتملة عمّا ستفعل قوى كثيرة في الإقليم والعالم بلا وجود برابرة كهؤلاء، وعلى تعقيبات محتملة من فصيلة «لقد كانوا هم الحل».
لذا، وبدلاً من الانخراط في مرافعات مبتذلة، نحتاج للتفكير في الدوافع السياسية والأيديولوجية، التي حرّضت على تحويل هؤلاء إلى برابرة، وتفكيك عملية التحويل نفسها بوصفها نوعاً من الحل. وفي هذا كله، وبقدر ما أرى، ما يعيدنا إلى توصيات المحافظين الجدد (1996) التي صارت خارطة طريق لنتنياهو، ويمكن الاعتماد عليها في تفسير ما وقع من تحوّلات في بلادنا والإقليم منذ ذلك الوقت.
نصّت التوصيات على: إرساء العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة على قاعدة القيم الحضارية والأخلاقية الغربية المشتركة، رفض معادلة «الأرض مقابل السلام»، وطرح «السلام مقابل السلام» كبديل، التخلّص من اتفاقات أوسلو، وإسقاط صدّام حسين.  وما يعنينا منها، الآن، الأولى، أي قاعدة القيم الحضارية والأخلاقية الغربية.
ولنتذكّر، هنا، أننا في العام 1996، وأن أصحاب التوصيات، ومنهم نتنياهو، الذي سيصعد إلى سدة الحكم في العام نفسه، وجدوا أنفسهم في معسكر المنتصرين بعد انهيار الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي، (1990) وأن في مجرد وضع توصيات كهذه ما يعني أنهم رأوا في أنفسهم أصحاب مشروع لهندسة عالم ما بعد الحرب الباردة، وأن الشرق الأوسط صار هو «اللعبة الكبرى» ومسرحها الكبير.
ولنتذكّر، أيضاً، أن الانتصار، في الصراع مع السوفيات والكتلة الاشتراكية (كان الروس برابرة، وأنصاف آسيويين في الصراعات الأيديولوجية للحرب الباردة) تجلى كانتصار لسردية كبرى جسّدتها الديانات المدنية المعتمدة في الديمقراطيات الغربية في منظومة قيم اُعتبرت غربية، ومن الروافع الأساسية لحضارة غربية مفترضة، ودليل تفوّقها. كان هذا، عموماً، مضمون المرافعة الأساسية لهنتنغتون في «صراع الحضارات» الذي تصادف صدوره في عام صدور التوصيات نفسها.
بهذا المعنى، وفي السياق الزمني لصدور التوصيات، والأجواء الأيديولوجية لنهاية الحرب الباردة، بدت إيران وسيلة إيضاح مثالية لتحديات محتملة تجابه الغرب على الصعيد القيمي والحضاري بعد الانتصار على البرابرة الروس. كانت كل مرافعات الغرب في هذا الصدد صحيحة. فإيران دكتاتورية دينية، تُنتهك فيها حقوق الإنسان، قامت على أنقاض نظام كان حليفاً مثالياً للغرب بالمعنى السياسي والثقافي، والأهم من هذا كله أنها تبنت خطاباً معادياً للغرب، وللدولة الإسرائيلية على نحو خاص.
هذه مرافعات معتبرة، بطبيعة الحال، ومع ذلك، تصعب الموافقة على فرضية أن الدكتاتورية الدينية، وانتهاك حقوق الإنسان، كانت هي الفيصل. فالكثير من حلفاء الديمقراطيات الغربية، في العالم العربي، ليسوا أفضل حالاً في مجال انتهاك حقوق الإنسان، ناهيك عن اعتناقهم وترويجهم لأيديولوجيات دينية أكثر تشدداً في عدائها للغرب من دكتاتورية الملالي الدينية في طهران. لذا، وعلى الرغم من توظيف القيم الغربية في سجالات سياسية كثيرة، إلا أن العداء السياسي للغرب، وللدولة الإسرائيلية، هو المفتاح الحقيقي لموقف الديمقراطيات الغربية من هؤلاء.
لم تكن الأمور قد تعقّدت بعد في موضوع القيم الحضارية والأخلاقية في العام 1996، مقارنة بالتداعيات الأيديولوجية والسياسية لهجمات 11 سبتمبر الإرهابية بعد أربع سنوات، وصعود الوحش الداعشي بعد سقوط واحتلال العراق. وما يعنينا أن عملية إرساء العلاقة بين إسرائيل والغرب، على قاعدة القيم الحضارية والأخلاقية المشتركة، تمت بفعالية، في العشريتين الأولى والثانية، في سنوات الخلافة والإرهاب، والهجمات الإرهابية للوحش الداعشي في كبريات العواصم والمدن الأوروبية.
سنفكّر في كيفية تخلّص نتنياهو من أوسلو، كما جاء في التوصيات، و»نفض اليد» من عملية «الأرض مقابل السلام»، في معالجات لاحقة. تكفي الإشارة، الآن، إلى أن اختزال الصراع مع الفلسطينيين في «الكفاح ضد الإرهاب» كان وما زال استراتيجية معتمدة لتحقيق الأمرين.
وفي السياق نفسه، أنشأ اختزال نتنياهو، والمعسكر القومي الديني، لكفاح الفلسطينيين في باب الإرهاب صلة وصل فائقة الأهمية، وعملية تماماً، مع الحرب الأميركية والغربية عموماً على الإرهاب. لذا، وفي السياق، لم تعد قاعدة القيم الحضارية والأخلاقية نظرية ومجرّدة، بل اكتسبت سمات عملية تماماً، ونجح الإسرائيليون في إغناء السردية الغربية نفسها بدمج فكرة العداء للسامية، مع تأويلاتها الجديدة، في بنيتها الأساسية. وبهذا المعنى، دار الزمان دورة كاملة، وعادت إسرائيل موقعاً متقدماً للغرب، كما تخيّل آباء الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر. وفي سياق هذا كله، ومن سوء حظ الفلسطينيين، وبالعودة إلى تعقيب كفافي، أن حماس كانت هي الحل. فاصل ونواصل.

شاركها.