موقع مقالة نت
اهم المقالات التي تهم القارئ العربي

حين مارستُ التنسيق والتعاون الأمني مع العدو!

0 0

كتب د. فايز أبو شمالة:

كنت متحمساً لاتفاقية أوسلو داخل السجون الإسرائيلية، ووفق ما جاءنا من معلومات خلف الأسوار، حسبنا أن اتفاقية أوسلو استراحة مقاتل، إلى أن اكتشفنا الحقيقة المؤلمة بعد سنوات، من خلال الممارسات البشعة لكثير من الرتب العسكرية الفلسطينية العليا، ومن خلال معطيات الواقع المؤلم؛ الذي تكشف أمامنا عن مهزلة سياسية، ومفسدة إدارية.
في تلك الأيام الخوالي من سنة 1996، جاءني جارنا عبد القادر عبيد، ليخبرني عن اختفاء ابنه رامز منذ عشرة أيام، ولا يدري عنه شيئاً، ويطلب مني الاتصال بأصدقائي في الأجهزة الأمنية، وسؤالهم عن مصيره.
اتصلت بأحد أصدقاء السجن ه. د. وهو أحد الضباط المسؤولين في جهاز الأمن الوقائي، وأبلغته باختفاء رامز عبد القادر عبيد منذ عشرة أيام.
بعد يومين، زارني صديق ه. د. في بيتي بمخيم خان يونس، وقال لي: المخابرات الإسرائيلية تربط بين اليوم الذي اختفى فيه رامز عبيد، وبين اليوم الذي حدث فيه التفجير في تل أبيب، في ذلك التفجير قتل وجرح العشرات من الجنود الإسرائيليين في شارع “ديزنكوف”، وأضاف صديقي: المخابرات الإسرائيلية تطلب صورة لرامز عبيد. فاعتذرت على الفور، لن أقدم للمخابرات الإسرائيلية صورة.

بعد يومين عاد الصديق المسؤول في جهاز الأمن الوقائي، وعرض أمامي صورة لوجه شخص جمعت أشلاؤه بعد التفجير، وألصقت في الصورة قطع اللحم المتناثر لوجه الشخص الذي قام بعملية التفجير، بحيث تعطي الصورة ما يشبه رأس إنسان، وسألني صديقي إن كانت صورة ذاك الوجه تشبه صورة رامز، فاعتذرت عن الجواب، فأمامي صورة مشوه لقطع لحمٍ تشبه وجه إنسان، ولا يمكن الإجابة بنعم أو لا.
وقتها اقترح صديقي أن أعرض الصورة على والد الشهيد رامز عبيد، ووالدته، ليتأكدوا إن كانت الصورة لابنهم؟ أم لا؟ فاعتذرت، وبدأت أشعر بعدم الرضا.
بعد أيام عاد إلي الصديق المسؤول في جهاز الأمن الوقائي، ونقل إليّ تأكيد المخابرات الإسرائيلية بأن العملية الفدائية التي نفذت في تل أبيب، وأسفرت عن قتل وجرح عشرات الجنود الإسرائيليين، كان بطلها جارنا الاستشهادي رامز عبيد.

فكيف سأمرر خبر استشهاد رامز لوالديه؟
في ذلك اليوم استدعيت إلى بيتي في المخيم عدة شخصيات معروفة من الحارة، وأبلغتهم بالخبر، وطلبت منهم تمرير الحدث لوالدي الشهيد بالتدريج، مع المواساة.
ومجرد أن دخل والد رامز ووالدته البيت، وشاهدوا حشد رجال الحارة، عرفوا مصير ابنهم، وأدركوا الحقيقة، وراحا يترحمان على ابنهما رامز، وراح الحضور يواسي والديّ الشهيد، ويلحق بهما للمشاركة في بيت العزاء.
وكانت المفاجأة بتصرف الأجهزة الأمنية في ذلك الوقت، فقد اعترضت قيادة الأمن العام على إقامة بيت عزاء للشهيد رامز عبيد، وجاء ضباط وجنود من الأمن العام، وحاولوا هدم بيت العزاء، فتصدى لهم الناس، ليتم اعتقال مجموعة من شباب عائلة أبو شمالة ومن سكان المخيم من قبل الأجهزة الأمنية.
ومع الإصرار الشعبي على مواصلة إقامة بيت العزاء للشهيد، تطورت المواجهات أمام بيت العزاء، حتى وصلت إلى حد الصدام بالأيدي والاشتباكات!
في ذلك الوقت العصيب، اتصل اللواء عبد الرازق المجايدة المسؤول الأول عن الأمن في قطاع غزة، وطلب مني بصفتي المختار أن أفض بيت العزاء، لأن الارتباط العسكري أبلغه بأن الجيش الإسرائيلي سيقتحم المخيم هذه الليلة، ويعتقل والدي الشهيد وإخوته، ويقتل ويعتقل كل من يقف في طريقه!
اعتذرت عن تنفيذ مهمة يطلبها الجيش الإسرائيلي، وكان ردي على اللواء: ليقتحم الجيش الإسرائيلي المخيم، والناس جاهزة للتصدي، ولن تنحني.
ومضت أيام العزاء الثلاثة مصحوبة بالتوتر والانفعال والحزن والغضب، ولم يجرؤ الجيش الإسرائيلي على اقتحام المخيم، حتى وصلنا إلى مفصل التحقيق الإسرائيلي في هوية الشخص صاحب التفجير.
فقد جاء إلى بيتي صديقي المسؤول في جهاز الأمن الوقائي، ه. د. وقال:
الإسرائيليون يطلبون والدي الشهيد رامز، لأخذ عينه دم منهما، للتأكد من شخصية رامز، بعد فحص DNO، فرفضت، ولم أزعج والدي الشهيد بما يطلبه الجيش الإسرائيلي منهما.
بعد يوم اتصل اللواء عبد الرازق المجايدة، وقال: لقد هددنا الجيش الإسرائيلي باقتحام المخيم، واعتقال والدي الشهيد رامز بالقوة، فإن تم تسليمها للجيش الإسرائيلي من خلال الارتباط العسكري الفلسطيني، سيأخذ الطبيب الإسرائيلي منها عينة دم للفحص المخبري، ويعيدهما بسلام، هكذا تعهدوا لنا الجيش الإسرائيلي، وأنا أضمن ذلك

رفضت طلب اللواء عبد الرازق المجايدة وقلت له: لن أتدخل في هذا الأمر، ابعث من طرفك من يأخذ والدي الشهيد رامز بالوقة، أو اترك الجيش الإسرائيلي يقتحم المخيم، ويعتقلهما

في اليوم التالي جاءني صديقي في جهاز الأمن الوقائي، ه. د. وقال لي: تواصل معنا الارتباط العسكري، والمخابرات الإسرائيلية تصرُّ على أخذ عينة دم من والدي الشهيد، للتأكد من صحة تقديراتهم حول هوية رامز.

تحت هذا الضغط المتواصل، اقترحت على صديقي أن يأتي الطبيب الإسرائيلي في سيارة الأمن الوقائي إلى بيتي في مخيم خان يونس، دون أن يشعر به أحد، وسأحضر والدي الشهيد رامز، ومن داخل بيتي يأخذ الطبيب الإسرائيلي منهما عينه الدم، ونغلق الملف.
في اليوم التالي عاد صديقي المسؤول وقال: لقد رفض الإسرائيليون الفكرة، ويصرون على حضور والدي الشهيد إلى الموقع العسكري الإسرائيلي غرب مخيم خان يونس.
يومها اقترحت على صديقي، أن نأخذ نحن عينه دم من والدي الشهيد، ونرسلها للجيش، ولكن الإسرائيليين رفضوا الفكرة، ومارسوا مزيداً من الضغط والتهديد باقتحام المخيم.
في اليوم التالي اقترحت على ضباط الارتباط الإسرائيليين من خلال صديقي، أن نحضر أطباء عرب، ليأخذوا عينه الدم من والدي الشهيد، أمام ناظر الطبيب الإسرائيلي، على أن يتسلم الطبيب الإسرائيلي عينة الدم في نقطة الارتباط الخاصة بالفلسطينيين غرب مخيم خان يونس.
لقد وافق الإسرائيليون على الفكرة، وحددنا ساعة التلاقي عند نقطة الارتباط الفلسطينية غرب مخيم خان يونس.
من طرف اتصلت بالدكتور حيدر القدرة ـ رئيس جمعية الهلال الأحمر في قطاع غزة حالياً ـ واتصلت بالدكتور ناصر الأزعر، ليقوما هما بسحب عينه الدم من والدي الشهيد، أمام عين الطيب الإسرائيلي.
وركبنا سيارة الأمن الوقائي، أنا في المقدمة، وبصحبتي الدكتور حيدر القدرة والدكتور ناصر الأزعر، ويرافقنا والدي الشهيد رامز، وتوجهنا غرباً نحو نقطة الارتباط العسكري الفلسطينية، على بعد عدة أمتار من موقع الجيش الإسرائيلي، ومكثنا جميعاً داخل السيارة، ننتظر قدوم الطبيب الإسرائيلي.
وللحق والتاريخ، لقد انتشر شباب الأمن الوقائي في المكان، وأخذوا احتياطاتهم الأمنية خشية الغدر الإسرائيلي، وكمنوا بسلاحهم في أكثر من موقع، وراح الجميع ننتظر وصول الطبيب الإسرائيلي ومن يقوم بحراسته من الجنود الإسرائيليين.
وسط القلق والتوتر، انتظرنا ساعتين تقريباً، ولم يأت أحد، تحدثت لصديقي ه. د. في جهاز الأمن الوقائي، بأننا لن ننتظر أكثر، فإما أن يحضر الطبيب الإسرائيلي في غضون دقائق، وإلا فإننا سننصرف من المكان.
وهذا ما تحقق، فقد اتصل الإسرائيليون، وأبلغوا المسؤولين الفلسطينيين بأنهم يرفضون الفكرة، وأنهم يخشون على سلامة الطبيب وحراسه.
انسحبنا من المكان، بعد أن شكرت الدكتور حيدر القدرة والدكتور ناصر الأزعر على موقفهما الإنساني والرجولي.
لتكون تلك المرة الأولى والأخيرة في حياتي التي أشارك فيها بالتنسيق والتعاون الأمني.
فهل التنسيق والتعاون الأمني في هذه الأيام، يشبه التنسيق والتعاون الأمني قبل ثلاثين سنة؟ أم تطور حتى وصل إلى حد اعتقال الأجهزة الأمنية الفلسطينية من تشتبه به المخابرات الإسرائيلية، ووصل إلى حد تفتيش البيوت الفلسطينية عن سلاح المقاومة، ومصادرته، واعتقال صاحبه، وإبطال مفعول العبوات الناسفة التي يعدها رجال المقاومة، ومن ثم اعتقال كل من يفكر في عمل مقاوم ضد المحتلين؟
وهل عرفتم لماذا أكره شخصياً التنسيق والتعاون الأمني؟ وأحتقر صاحب الفكرة في التوقيع على اتفاقية أوسلو، التي أعطت الصهاينة الحق في المطاردة الساخنة، التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في هذه الأيام داخل مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية؟
كاتب فلسطيني/ مقيم في غزة

اضف تعليق