عندما تراقب الدكتورة أيالا بانيفسكي الإعلام العبريّ خلال عدوان تشرين الأوّل (أكتوبر)، تشبّهه بطبيب أورامٍ مُهمَلٍ، والجمهور الإسرائيليّ بمريضٍ في مرحلةٍ حرجةٍ، إذْ يعمل الإعلام كطبيبٍ يُخفي الخطورة عن مرضاه، ليموتوا بسرعةٍ ولكن بروحٍ معنويةٍ عاليّةٍ. لكن السرطان لن يختفي. إذا عرفنا عنه مُبكرًا، وإذا توفرت لدينا جميع المعلومات والبيانات اللازمة لمكافحته، فقد نتمكن من إنقاذ حياتنا، هذا ما جاء في التقرير، الذي يُنشر الآن في الذكرى الثانية للحرب.
كتبت التقرير بانيفسكي، الباحثة في الإعلام السياسيّ، إلى جانب المراسل السياسيّ السابق في إذاعة الجيش، عيدو بينيفاجي، وكلاهما باحث في معهد (مولد) الليبراليّ. عنوان التقرير هو أيضًا تشبيه، هذه المرة من عالم السينما: “عيونٌ مُغمضة – عندما التقت الحرب في الإعلام بالحرب في غزة”.
الصحافيون الصهاينة خانوا مهنتهم من أجل مصالح الكيان
وقالت صحيفة (هآرتس) العبريّة إنّ “لائحة الاتهام اللاذعة التي وُضعت هناك لا تقلّ خطورةً عن الصور والادعاءات بأنّ وسائل الإعلام الإسرائيليّة شاركت في جهود إخفاء حجم الدمار والمعاناة في غزة عن الجمهور”، فيما قالت بانيفسكي في مقابلةٍ مع الصحيفة من مقر إقامتها في لندن، “بدلاً من أنْ يقوم الصحفيون، الذين أُقدّر بعضهم كثرًا، بعملهم، نشعر أنّهم يُغطّون أعين الجمهور، وهذه مأساة برأيي”.
وتابعت: “كلّ مَنْ تحدثت إليه خارج إسرائيل خلال العامين الماضيين ينظر إلى ما يحدث ولا يفهم، كيف يُعقل أنْ يبدو أصدقاؤه الإسرائيليون، الذين كان بإمكانه التحدث معهم دائمًا حتى لو كانت هناك خلافات، وكأنّهم لا يعيشون في نفس الواقع. من الخارج، يبدو الأمر كما لو أنّنا نحن الإسرائيليين ركبنا مركبة فضائية وانقطعنا عن العالم. هذا وضع خطير، قد يكلفنا غاليًا، وسيكون من الصعب إعادة الأمور إلى نصابها”.
الإعلام الصهيونيّ روجّ لمدّة عاميْن بأنّه لا أبرياء في غزّة
وأردفت: “لقد تقبّل مَنْ يعتبرون أنفسهم صحفيين جادين، وروجوا لمدة عاميْن لفكرة أنّه لا يوجد أبرياء في غزة، وأنّ جميع الفلسطينيين سواء. لا أستطيع فهمها أوْ استيعابها. إنّها قاسية بقدر ما هي غبية”.
أيالا بانيفسكي، 39 عامًا، شرعت بالعمل على الدراسة بعد ستة أشهر من بدء الحرب، وهي فترة زمنية اعتقدت أنّها ستكون قريبة من نقطة تحول القتال. “افترضنا أنّها ستنتهي قريبًا، وأنّنا ننظر إلى فترة الحرب بأثرٍ رجعيٍّ، أوْ على الأقل إلى معظمها. يصعب تذكر ذلك، ولكن كانت هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بذلك، مع عناوين رئيسية مثل (صفقة متقدمة في لحظة)، والتي نعلم الآن أن الكثير منها كان مُضلِّلاً، فلم تنتهِ الحرب بعد، لكن الأشهر الستة الأولى شكّلت أنماط تفكير وسائل الإعلام”.
تستند الدراسة، وعملية العمل التي كشفت عنها، والنتائج الأولية التي كشفت عنها إلى تحليل عيّنة من الإصدارات التي بُثّت على القناة الـ 12 بالتلفزيون العبريّ، خلال ما تدّعي أنها كانت ستة أشهر تكوينية، وتمّ اختيار 50 فقرة من الساعة الثامنة مساءً عشوائيًا، تحتوي على 721 خبرًا (مقالات، مقابلات، حلقات نقاش)، منها 522 تناولت الحرب مباشرةً. بصفتي شخصًا أتابع الأخبار يوميًا على مدار العامين الماضيين، وشريكي يشكو منها كثيرًا، يمكنني القول إنّ التأطير والتعمية اللذين شكّلا آنذاك الرواية المركزية لوسائل الإعلام خلال الحرب، لم يتغيرا بعد عامين”.
القناة الـ 12 بالتلفزيون العبريّ رأس الحربة في هندسة الوعي وإخفاء الحقائق
وأوضحت: “هل القناة الـ 12 مسؤولة عن جميع المشاكل؟ هناك عدة أسباب لتناول هذه القضايا. فالقناة هي المسيطرة بلا منازع على الإعلام الإسرائيليّ، والأكثر مشاهدةً بلا منافسة، والأكثر تأثيرًا أيضًا. هذه هي النسخة التي يتابعها جميع صناع القرار، في النخب السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة. فهي تُملي أجندات وسائل الإعلام الأخرى أيضًا. مع القوة العظيمة تأتي مسؤولية عظيمة، لماذا اخترتَ الوسيلة التلفزيونية، وليس، على سبيل المثال، اختبارًا بين N12 وموقع (واينت) أو الشركات الكبرى؟ “كنتُ في تل أبيب خلال معظم فترة الحرب، وشعرتُ أنّ الانقطاع عن العالم كان مُنصبًّا بشكلٍ كبيرٍ على صور الرعب التي بُثّت على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع في نشرات الأخبار حول العالم، ولم تُنشر في إسرائيل. من الصعب تحليل مواد الفيديو المُشاهدة، فالعملية مُعقدة. إنّه كابوسٌ حقيقيٌّ لإجراء هذا النوع من البحث. لو كانت لديّ ميزانية غير محدودة، لكنتُ سعيدًة بتحليل جميع وسائل الإعلام”.
ووفقًا للدراسة، كانت الكارثة الإنسانية في قطاع غزة غائبةً تمامًا تقريبًا عن التغطية الإعلامّية الإسرائيليّة، ثلاثة في المائة فقط من المواد التي تناولت الحرب أشارت إلى الوضع المدنيّ في غزة، ومن بين مئات المواد في العينة، ذكر أربعة فقط الضحايا الفلسطينيين في قطاع غزة الذين لم يشاركوا في الإرهاب.
الفجوة بين الإعلام الصهيونيّ والغربيّ كبيرةٌ جدًا
كما أكّدت الدراسة انطباع بانيفسكي بأنّ الفجوة بين التغطية في إسرائيل والعالم ملحوظة في الجانب البصري: أظهرت مقاطع الفيديو والصور من قطاع غزة التي ظهرت في البث المشاهدين وهم يقاتلون أوْ جنود الجيش الإسرائيليّ أو المباني المدمرة والمدن المهجورة، وليس المعاناة الإنسانية وتكاليف الحرب.
وأشارت إلى أنّه “في الأشهر الستة الأولى، قُتل أكثر من 31000 شخص في قطاع غزة، من بينهم 9000 امرأة و13000 طفل، وقد نشرت الأمم المتحدة هذه الأرقام، وهي تستند إلى منشورات وزارة الصحة في غزة، التي تسيطر عليها حماس، ولم تنشر إسرائيل بعد بيانات عن وفيات غزة في الحرب”.
القتل في غزّة والدمار لا يُذكَر بتاتًا بالأخبار العبريّة
“منذ ذلك الحين، يُقتل العشرات في قطاع غزة يوميًا، وحتى الجيش الإسرائيليّ لا يدّعي أنّ معظمهم إرهابيون. هذه الحقيقة لا تُدرج حتى كجملةٍ في البرامج الإذاعية على أيٍّ من القنوات الرئيسية. كيف يُفترض بالمواطنين الإسرائيليين اتخاذ قراراتٍ مدروسةٍ بشأن مستقبلهم دون أبسط المعلومات، مثل من مات ومتى؟ إنّه وضع مُقلق”.
واختتمت: “القناة الـ 12 لم تُحاول حقًا الدفاع عن نفسها طوال الحرب ضدّ الانتقادات التي وُجهت إليها لعدم عرضها معاناة غزة، العديد من الأعذار التي ربّما كانت مقبولةً في مرحلة الصدمة، في البداية، أصبحت أقل وضوحًا الآن. مجرد وجود شيءٍ مؤلمٍ ليس سببًا لعدم عرضه في الأخبار. كلّ مَنْ يريد معرفة الحقيقة لا يقل وطنيّةً، وإخفاء المعلومات عن الجمهور مُخالفٌ للقانون.”
خاتمة: الفلسطينيون هزموا الكيان بالحرب الإعلاميّة
بقي أنْ نشير في الخُلاصة إلى أنّه في الحرب الإعلاميّة انتصرت السرديّة الفلسطينيّة على الصهيونيّة بالضربة القاتلة، والأمور ستأجج مع دخول طواقم الصحافيين الأجانب إلى قطاع غزّة لنقل المأساة والدمار والقتل الهمجيّ إلى جميع أنحاء العالم، لأنّ الاحتلال منعهم على مدار عاميْ الحرب من الدخول إلى غزّة ونقل الوقائع على حقيقتها.