دمشق.. السقوط غير الحر …! أكرم عطا الله
لم يعد هروب زعيم عربي يشكل صدمة في منطقة لم ينقطع هذا السيناريو في تاريخها وظل مستمراً خلال سنواتها الأخيرة، فهو يتواصل مع إرث عربي طويل من صراعات السلطة التي تصل فيها جماعة معينة تحتكر القوة ضد جماعة أخرى، وما أن تلتقط الأخيرة فرصة حتى تأخذ مبادرتها الدامية، وهكذا يتم شحن توربينات العنف ودورته الدائمة.
ما يميز بشار الأسد عن زملائه الذين تساقطوا في السنوات الأخيرة أنه كان يتكئ على قوتين كبيرتين، واحدة إقليمية هي إيران والأخرى دولية هي روسيا. ويشير سقوطه السريع خلال 11 يوماً الأخيرة إلى أن الغطاء قد رُفع عنه، ولم يكن الأمر بعيداً عن قصة دولية لم تتكشف بعد، ولكن حجم الحركة كان كبيراً وكذلك اتصالات الخطوط الساخنة بين العواصم ذات الصلة في الأيام الأخيرة، هناك من استبق بضربته اتصالات عربية تتعلق برؤية عربية ليقطع عليها الطريق كانت تجري على الجانب النقيض لما حدث،
لم يكن قائد العمليات أحمد الشرع دقيقاً وهو يتحدث عن عصامية «المجاهدين» تسليحاً وتمويلاً ولم يقل الحقيقة وسط لعبة الأمم الكبرى. فالتقرير الذي نقلته القناة الثانية عشرة الإسرائيلية عن بلومبيرغ عن العشرين ضابطاً أوكرانياً والطائرات المسيّرة الأحدث التي تم تزويد المعارضة بها، ودور دولة اقليمية جارة لسورية ينزع عنه المصداقية، ربما من المبكر المغامرة بالحديث عما جرى، ولكن من أجل فك بعض الألغاز ينبغي العودة لحملة التصفيات التي جرت في الأشهر الخمسة الأخيرة داخل المجموعات المسلحة، وتهيئة المسرح وقتل أبو ماريا القحطاني وطبيعة اتهاماته لمنافسه الأبرز وتفرد الجولاني بالزعامة … التاريخ أحياناً ليس بريئاً إلى هذا الحد، وخاصة حين يتعلق الأمر بسورية مركز مصالح الكون وبؤرة صراعاته.
تخلصت سورية من دكتاتور دموي من أسوأ من حكم المنطقة العربية، مسدلةً الستار على آخر حكم لحزب البعث الذي جسد تجربة وحشية، حيث تحقق في دولتي مركز عربيتين ليتحول إلى حكم العائلة، ولا يمكن للذاكرة العربية أن تنسى تلك الندوب التي تركتها تجارب البعث. صحيح أن الحكم في المنطقة العربية هو امتداد لتاريخ طويل من الصراعات الدامية والبطش. لكن تجارب البعث كانت أكثرها قسوة لماذا؟ هل يتعلق الأمر بالفكرة أم يتعلق بالتاريخ والجغرافيا التي تجسدت فيها التجربة؟
سقط نظام عربي جديد في سلسلة الدومينو، لكن هذه المرة كان الاكتشاف أن جيشاً انهار في أحد عشر يوماً ليكتشف الجميع أنه لم يكن هناك جيش قادر على الوقوف في وجه جماعات مسلحة. بل إن ما كان في سورية هي أجهزة أمن ضخمة بناها النظام للحفاظ على الحكم، أما الجيش فلم يكن سوى مجرد مؤسسة هامشية كان يمكن أن يسقط قبل أكثر من عقد لولا تدخل أصدقاء النظام. فقد وصلت المعارضة بعد عام من الاضطراب إلى أطراف دمشق، قبل أن تنقلب الموازين بعد تدخل حزب الله وإيران ومن ثم روسيا.
المسألة تطرح نقاشاً حول بنية الدولة العربية ومؤسساتها. فالمشهد الكاريكاتوري بأن تصحو الدولة على هروب رئيس كاد يختفي من العالم ولكنه مازال جزءاً من اللحظة العربية الحية، وإذا كان المثقفون العرب يناقشون فشل بناء الدولة المدنية في الوطن العربي فإن الفشل أبعد من ذلك بكثير، فقد عجزت الدكتاتوريات العربية حتى عن بناء الدولة العسكرية، فما كان يتم صناعته هو مجرد قوى أمنية لمراقبة المواطن والمعارضة والتنكيل به لوأد أي منافسة على السلطة واستمرار احتكارها وتوريثها للأبناء، بغض النظر عن الفساد والخراب وانهيار الدولة وتخلفها وضعفها وسوء ادارة مواردها وانتشار الفقر والرشوة، كمدخل للقطع بين المواطن والدولة وبالتالي فقدانه الرغبة بالدفاع عنها حين يتم اختزالها بحزب ثم بطائفة ثم بأسرة.
هناك هزيمة عربية، ولم يكن من المصادفة أن تنتج كل هذا العجز رغم تغيير كثير من النظم الحاكمة لم يكن بينها اختلاف. فالفشل كان السمة الأبرز وانتهاك حقوق الإنسان وازدراء العلم والثقافة وملاحقة المفكرين باعتبارهم خطراً على النظام، وصناعة نخب موالية من محدودي الذكاء واختيار محدودي الكفاءة لإدارة الدولة بسبب معايير الولاء، لأن الهدف إحكام القبضة على السلطة وضمان استمرارها وتسخير موارد الدولة لهذا الهدف.
في حروب الجيل الخامس لا متسع للحديث عن القوة البشرية، وحتى تلك بات من المهم أن تنشأ في بيئة علمية تكنولوجية، وفي زمن الإدارة الحديثة بالتكنولوجيا وعن بعد لم يعد هناك متسع لإدارات بيروقراطية وطوابير من المواطنين يصطفون على الأبواب كمدخل للرشوة والفساد وإذلال المواطن. ففي الدول التي نهضت تتم كل المعاملات الحكومية بالمراسلات عن بُعد، ولم يعد هناك احتكاك بين المواطن وموظف الدولة، ولم تعد الدولة هي النظام، فالمشهد على طرفي الحدود يتلخص في أنه في سورية يسقط رأس النظام فتسقط الدولة، بينما في إسرائيل تتم محاكمة رأس النظام فيما الدولة تستمر بالعمل كأن شيئاً لم يكن، ويعمل جيشها بكفاءة عالية كي يحطم ما تبقى من جيش آخر. تلك هي عينة يمكن القياس عليها لتعرف أن هزيمة الأمة هي هزيمة حضارية … تحتاج الى أن تعيد النظر في كل شيء.