على امتداد العامين السابقين كنا نكتب كل مرة  أن حركة حماس في أصعب محطاتها وأن خياراتها تضيق تباعاً، ولأن الخط البياني الهابط يشير إلى مزيد من الاختناق للحركة التي لم تدرك بعد فداحة اللحظة. وسنكتب في مقالات لاحقة أن خيارات الحركة كانت  مريحة أكثر خلال أسابيع مضت، وهي الآن تقف في محطة شديدة السواد لا تعرف كيف سترد فيها بعد أن حاصرها الأميركي سياسياً وتمكن من استنطاق أقرب رعاة حماس «تركيا وقطر» لتأييده، وكذلك يحاصرها الإسرائيلي ميدانياً ولا خيارات أمامها، فالموت من أمامها والبحر من ورائها ولكن هذا ليس زمن طارق بن زياد.
في خطة ترامب بات واضحاً أن خيارات حماس إما الموافقة على خطة ترامب والموت بشكل ناعم، أو الاعتراض عليها والموت بشكل عنيف من خلال استكمال احتلال مدينة غزة ثم المنطقة الوسطى وتجريف غزة بما فيها حركة حماس. ولا حل وسط، أي أنه لم يترك لها سوى أن تختار شكل موتها أو الوسيلة التي سيتم إعدامها بها.
وبعكس ارادة الغزيين الذين دفعوا ثمن حكم حماس الذي يتجسد مستوى أدائه الآن رغم أنهم رأوا ما يكفي من نماذج انعدام الكفاءة ويدفعون الآن لحمهم الحي من أعزاء وبيوت نتاج المغامرة الأكبر، والذين يريدون للحركة أن تسلم بكل شيء وبسرعة، وهم يدركون أن لا أحد سيغير موازين واقع الأمر الذي يسير ميدانياً منذ عامين عكس صالح الغزيين الذين انتهوا مشردين في الخيام، وهذا يتعارض مع التكوين الأيدلوجي والسياسي للحركة.
لا تستطيع الحركة الإسلامية الموافقة على بنود جاءت في خطة ترامب، لأن ذلك يعني أن تصادق على إعدامها. فتسليم السلاح ليس إجراءً تقنياً أو إدارياً بقدر ما يتعلق الأمر بفكرة الإسلام السياسي وجدوى وجوده بين الفلسطينيين، فالحركة حين تشكلت عام 1987 جعلت المقاومة جزءا من تسميتها «حركة المقاومة» وقد جاء تشكيل الحركة بعد أسبوع من انطلاق الانتفاضة الأولى لتكون التعبير الأبرز عن الصدام مع إسرائيل، أو أنها الأقرب لهذه المناخات، ثم تمددت الحركة في تسعينات القرن الماضي حين ذهبت الحركة الوطنية للتسوية مع اسرائيل لتترك فراغ الصدام، فكانت حركة حماس تتقدم لملئه معتبرة أن هذا المسار لن يفضي إلى حل، وأن لديها الحل بالعمل المسلح وهي قادرة على تحرير فلسطين كل فلسطين وطرد اليهود في سقف أعلى كثيراً من ممكنات الواقع، وتلقت الدفعة الأكبر مع الانتفاضة الثانية والصدام المسلح لتفوز في الانتخابات.
ماذا ستقول الآن إذا ما وافقت وسلمت سلاحها؟ كيف سيكون حكم التاريخ؟ وإذا كان التاريخ استدعاها في لحظة ما، ماذا سيفعل بها في لحظة معاكسة؟ هي الأمور كذلك رغم معاندة حركة حماس، لكنها وصلت إلى تلك اللحظة بالمعنى الوجودي، لكن لا يمكن أن نتوقع أن تقبل وأن تعلن فشل خيارها وكلفة وجودها على الشعب الفلسطيني. وقد توقف علماء الاجتماع السياسي أمام الظواهر السياسية معتبرين أن الدور الوظيفي هو الذي يستدعي المؤسسة وليس العكس، ففراغ الستينات هو الذي استدعى منظمة التحرير، وفراغ الصدام بعد أوسلو هو الذي استدعى حماس، وكذلك الانتفاضتين، ولكن بالخطة الأميركية وبتسليم السلاح كأن على حماس أن تعلن انتهاء دورها الوظيفي وتطوي تاريخها وترحل، وخصوصاً بعد مغامرة هي الأشد فداحةً على الشعب الفلسطيني، فقد تسلمت مدينة ساحلية وشعباً حياً لتسلمها خرابة كبيرة وكومة من الركام وشعباً بين نازح ومهجر بين الخيام.
وإذا ما اعترضت حماس سيكون الأمر أشد فداحةً، ما يعني تجديد رخصة تجريف غزة التي بدت أنها تآكلت في مظاهرة نيويورك الأسبوع الماضي. وقد أشار نتنياهو أنه بقبوله خطة ترامب، والتي بالتأكيد كان شريكاً كاملاً في صياغتها، هذا إذا ما قلنا أنه واضعها الوحيد، أشار إلى أنه «بموافقتنا على مشروع الرئيس ترامب ينتقل الضغط على حركة حماس» وهو تكرار لما كان يفعله طوال الحرب، يضع خططاً ومقترحات صعبة القبول ليلقي المسؤولية على الحركة، فقد بلغ دهاؤه قبل أسابيع أن جرها للتفاوض على ٤٠٠ متراً فيما كانت دباباته تطوي آلاف الامتار لكن وقعت حينها في الفخ.
حكومة نتنياهو لن تكون مضمونة إذا ما نفذت خطة ترامب، لذا يعول أركانها على سخاء حركة حماس بالرفض لإنقاذهم من مأزق التفكيك بعد أن انفتحت شهية متطرفي الحكومة على الاستيطان بعد طرد سكانها، بل إن بن غفير حدد لمن ستكون الشقق المطلة على البحر في ما أسماه بحي الشرطة.
كالعادة فإن حركة حماس ستقع في الكمين، فكل خياراتها صعبة والمعروض أمامها هو الموت فقط، ولها أن تختار وسيلة الإعدام . لذا هي تحاول أن تخرج بصيغة وسطية من خلال شروط لها علاقة بهدنة قد تقترحها الحركة تحتفظ فيها ببعض السلاح للسيطرة وتتوقف عن حفر الأنفاق والتدريب، مع جداول زمنية للانسحاب وأشياء من هذا القبيل تعكس انفصال حماس عن الواقع شديد الوضوح حد السطوع، فلم تدرك الحركة بعد أنها بفضل تحويل المقاومة إلى جيش كلاسيكي استدعت هزيمة كلاسيكية. فالمقاومة لا تنهزم لكن الجيوش تنهزم، وهي تلقت هزيمةً كبرى والمهزوم لا يحق له أن يضع بنداً في اتفاق الاستسلام …هكذا كتب التاريخ اتفاقياته، ومن لا يعرف معادلات القوة وموازينها من الجريمة أن يحكم شعوباً ويتحكم في مصيرها لأنه يشكل خطراً عليها… وغزةُ نموذج.

شاركها.