جاءت وثيقة حركة حماس حول السابع من أكتوبر، المعنونة بـ “روايتنا”، مخيّبة للآمال وبعيدة عن مستوى الحدث وتداعياته التاريخية والسياسية والإنسانية. فبدل أن تقدّم مراجعة جادة ومسؤولة، اختارت إعادة إنتاج خطاب أيديولوجي تبريري، لا يرقى إلى حجم الكارثة التي أعقبت ذلك اليوم، ولا يجيب عن الأسئلة الثقيلة التي فرضها الواقع.
ولا تكمن خطورة هذه الوثيقة في ضعفها التحليلي فحسب، بل في ما تكشفه من عقل سياسي مأزوم يتهرّب من المسؤولية، وينزع إلى إنكار الواقع، ويعيد إنتاج نفسه بوصفه سلطة شبه معصومة عن الخطأ. فهي لا تعكس مراجعة بعد كارثة، بقدر ما تؤكد نمط تفكير عقيمًا أسهم أصلًا في الوصول إليها.
لقد كُتبت الوثيقة بلغة إنشائية عالية النبرة، أقرب إلى البيانات التعبوية منها إلى التقييم السياسي. فهي تنطلق من منطلقات أيديولوجية ضيقة، تحاول حماية السردية الحزبية بدل تفكيك الحدث أو مساءلته بوصفه مأساة وطنية تستوجب وقفة نقدية شاملة. ولهذا جاءت أقرب إلى دفاع مسبق عن الذات منها إلى اعتراف أو مراجعة مسؤولة.
الأخطر من ذلك، أن الوثيقة تتعامل مع النتائج المدمّرة بوصفها تضحيات أو ثمنًا طبيعيًا، في مقاربة تُفرغ مفهوم المسؤولية السياسية من مضمونه. فحين تتحول الخسائر البشرية الهائلة، والدمار الواسع، والانهيار الإنساني غير المسبوق، إلى كلفة أخلاقية مجردة لا تستوجب المراجعة، نكون أمام خطاب يغلق باب المحاسبة ويحوّل المأساة إلى قدر لا يُسأل عنه أحد.
وعند الحديث عن الإنجازات، يتضح أن الوثيقة تخلط بين ما هو ملموس وما هو دعائي رمزي. فباستثناء إطلاق جزء من الأسرى، لا يقدّم النص إنجازات قابلة للقياس أو ذات أثر سياسي واضح، بل يسرد مكاسب معنوية من قبيل كسر الهيبة، أو إرباك العدو، أو إحداث صدمة نفسية. وهذه، مهما قُدّرت رمزيتها، لا يمكن فصلها عن النتائج الكارثية التي تلت الحدث، ولا يمكن تقديمها بوصفها بديلًا عن الحساب الواقعي للكلفة السياسية والإنسانية.
وتثير الوثيقة إشكالية مركزية حين تجزم بأن ما جرى لم يكن مغامرة أو سلوكًا انفعاليًا، بل خطوة محسوبة. فهذا الادعاء يصطدم بأسئلة جوهرية لم يجب عنها النص: إذا كانت الخطوة محسوبة، فهل كانت القيادة السياسية على علم كامل بها؟ وهل كانت تقديراتها لحجم الرد وتداعياته دقيقة؟ وإذا لم تكن كذلك، فكيف يمكن وصف القرار بأنه محسوب أصلًا؟ هذا التناقض يضع الرواية برمتها في مأزق منطقي يصعب تجاوزه.
أما الخلاصة التي ذهبت إليها الوثيقة، ومفادها أن الشعب الفلسطيني خرج أكثر ثقة بقدرته على البقاء، في مقابل عدو “مثقل بالهزيمة وفاقد للردع”، فهي أحكام تقريرية لا تستند إلى مؤشرات واقعية بقدر ما تعكس رغبة خطابية. فالواقع القائم، بما يحمله من دمار واسع، وخسائر بشرية غير مسبوقة، وتعقيدات سياسية خانقة، يجعل مثل هذه الاستنتاجات أقرب إلى التمنّي منها إلى التحليل.
في المحصلة، لا ترتقي هذه الوثيقة إلى مستوى الحدث الذي تدّعي تفسيره. فهي لا تمثل مراجعة تاريخية، ولا قراءة نقدية، ولا محاولة جادة لاستخلاص الدروس، بل تبدو محاولة لإعادة تثبيت السردية الحزبية وتحصينها من النقد، في لحظة كان الأجدر فيها فتح نقاش وطني واسع، شجاع، ومسؤول.
فالأحداث الكبرى لا تُقاس بقدرتها على إنتاج الخطاب، بل بقدرتنا على مساءلتها بصدق. ومن دون نقد حقيقي ومحاسبة سياسية، ستظل الروايات مجرّد نصوص تبريرية، عاجزة عن ملامسة الحقيقة، وبعيدة عن آلام الناس وأسئلتهم المشروعة.
ومن هنا، تبدو الحاجة ملحّة إلى الفصل بين هذه الحركة، بوصفها تنظيمًا سياسيًا أيديولوجيًا، وبين المجتمع ومصيره السياسي. لا بوصف ذلك إقصاءً أو انتقامًا، بل حماية للمجتمع من عقل سياسي أثبت عجزه عن التعلّم، وميله الدائم إلى المقامرة بمصير الناس تحت شعارات كبرى. فالشعوب لا تُدار بالإنكار، ولا تُحمى بالشعارات، ولا تُقاد بعقليات ترى في الكارثة إنجازًا. وما لم يُفتح الطريق أمام تفكير سياسي جديد، عقلاني، خاضع للمساءلة، فإن تكرار المأساة لن يكون احتمالًا… بل نتيجة حتمية.
