ساحات صراع مركزية وجديدة..!! حسن خضر
يمثل شعار “المقاومة السلمية” سياسة رسمية للسلطة الفلسطينية، ويجري تداوله في الحياة اليومية من جانب الرسميين والناشطين، والتدليل عليه، والتشديد على جدواه، في الحقل الوطني العام، في سياق تجليات لا تحصى للمجابهة اليومية مع الاحتلال.
ويمثل الشعار نفسه دليلاً قوياً على ضرورة إدانة السلطة من جانب معارضيها، ولا يندر أن يصل الأمر بالبعض إلى حد تخوينها. ولا يبدو من قبيل المصادفة، في حالة الإعياء الفكري العام، ألا يجتهد أحد من القائلين بالشعار ومعارضيه في صياغة مرافعات فكرية، وسياسية مقارنة (لا مماحكات) للتدليل على صوابه أو بطلانه.
لذا، لا يصعب في حالات كثيرة، أن تشعر نسبة لا بأس بها من رافعي الشعار ومروّجيه باليأس، وأن ترى فيه خيار مَن لا خيار لديه. ولا يصعب، بالقدر نفسه، وفي حالات كثيرة أيضاً، أن يضيع الحد الفاصل في مرافعات معارضي الشعار ومنتقديه بين النقد الموضوعي والمزايدة والتدليس.
وبما أن الناس لا يصنعون تاريخهم على هواهم، كما في عبارة شائعة لطيب الذكر ماركس، فالصحيح أن شعار “المقاومة السلمية” جاء استجابة موضوعية لتحوّلات إقليمية ودولية، وخلاصة منطقية لتجارب مريرة سابقة لعل الانتفاضة الثانية أقربها إلى ذاكرة الأحياء. الإقليمي يعني بما قلّ ودلّ: المثلث المصري ـ الشامي ـ العراقي، الذي تفكك، وتناثرت أطرافه واشتعلت في بعضها النار. والدولي يعني: انهيار الاتحاد السوفياتي، والكتلة الاشتراكية.
ولعل في هذا كله ما يُفسّر لماذا وجد الفلسطينيون أنفسهم في معسكر الخاسرين مع نهاية الحرب الباردة، ولماذا أرغمهم تفكك أضلاع المثلث الذهبي، الذي كانوا طرفاً فاعلاً فيه، على تسديد فواتير لا تحصى باللحم الحي من الرصيد السياسي والرمزي للمسألة الفلسطينية، ولماذا فرضت عليهم ضرورات البقاء على قيد الحياة بالمعنى السياسي في الإقليم والعالم، محاولة التأقلم، وإعادة التموضع، وترتيب الساحات والأولويات والأدوات. وهذا ما تحقق بنتائج ملتبسة حتى الآن.
والمفارقة، في هذا الشأن، أن محاولات التأقلم التي بذلها الفلسطينيون، على مدار ثلاثة عقود مضت، لم يرافقها جهد فكري يوازي خطوات عملية وحاسمة على الأرض (من وزن ودلالة أوسلو) لا يكتفي بتفسير، أو تبرير هذا كله وحسب، بل ويسعى لرصد ما فتح أو أغلق من أبواب الحاضر والمستقبل، أيضاً. والأسوأ من هذا كله أن رصيد الحركة الوطنية، وميراثها السياسي، وخبراتها، تعرّضت للتبديد.
على خلفية كهذه تبدّلت الساحات المركزية للصراع العربي والفلسطيني ـ الإسرائيلي، وتبدّلت الأولويات والأدوات، وعلى الرغم من تكرار الكلام عن “روايتنا” يومياً على ألسنة الناطقين الفلسطينيين، إلا أن مفردة “روايتنا” لا تقل غموضاً ومدعاة للالتباس عن شعار “المقاومة السلمية”.
والمشكلة، في الحالتين، أننا لا نكف عن إقناع أنفسنا وإقناع “الأمتين العربية والإسلامية” (وكلتاهما نظرياً على الأقل لا تحتاج ذلك، ولا نحن طبعاً) بعدالة كفاحنا في الحالة الأولى، ولا نبذل جهداً جدياً لإقناع غيرنا، وغير “الأمتين” بعدالة الكفاح نفسه في الحالة الثانية (وهؤلاء الغير هم مربط الفرس فعلاً، وورقة قوّة لأنهم صاروا ساحات مركزية للصراع (أعني أميركا والغرب عموماً).
لذا، لم تُقابل حادثة مُنتظرة بعد أسابيع قليلة، في أيار، أعني إحياء الأمم المتحدة للمرة الأولى في تاريخها، لذكرى النكبة، بما تستحق من اهتمام وحفاوة، وتغطية إعلامية تليق بها في وسائل الإعلام الفلسطينية، وفي كلام الناطقين الرسميين، بينما قوبلت حادثة محلية تماماً من نوع كتابة أبحاث (باللغة العربية طبعاً) عن تعميم “روايتنا” في العالم، بتغطية في وسائل الإعلام المحلية تتجاوز الحادثة الأولى، التي تمثل علامة فارقة بكل المقاييس.
وبهذا المعنى، وفي سياقه، أيضاً، نفهم كلام مارك لنش عمّا حققت حملة الـ”بي دي إس” من اهتمام وتعاطف في الجامعات الأميركية أكثر مما فعلت في العواصم العربية، وعن تحوّل أوروبا والولايات المتحدة إلى ساحات مركزية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وطالما صرنا “هنا”، فثمة أسئلة لا غنى عنها:
هل سنتمكّن من إقناع أحد “بروايتنا” دون النجاح في وضعها على سكة التاريخ الإنساني، أي دون تحريرها من المركزيات القومية والدينية، وهذا لن يتأتى دون تعريفها استناداً إلى قيم كونية في المقام الأول؟ وهل سنتمكن من إدراك العلاقة بين رواية كهذه، وإمكانية النجاح في ساحات مركزية جديدة للصراع، خاصة في الغرب؟
هل سنتمكّن من إدراك أن “المقاومة السلمية”، ونظام الأبارتهايد، وحلف إبراهيم وسلامه، وفضيحة الديمقراطية الإثنية، صارت كلها من مصادر التوتر بين الإسرائيليين وأنصارهم التقليديين في الغرب، وبينهم وبين قطاع واسع من اليهود الأميركيين والأوروبيين؟ فلم يسبق للدعاية الإسرائيلية عن قيم الديمقراطية المشتركة مع الغرب، وعن العداء للسامية في العالم العربي، وعن كراهية الفلسطينيين للسلام، وشطارتهم في “إضاعة الفرص”، أن بدت فارغة من المعنى كما هي الآن.
مقابل تواضع إمكانياتنا على صعيد المؤسسات الرسمية، وشبه الرسمية، مع استثناءات قليلة في الحقل الدبلوماسي، تجلّت على مدار العقود القليلة الماضية ظاهرة صعود جيل غير مسبوق، من حيث الكفاءة، من المؤرخين وعلماء السياسة والاجتماع الفلسطينيين، والباحثين في حقول أدبية مختلفة. وهذا الجيل (الذي تعلّم في جامعات الغرب، ويكتب بلغاته في الغالب، إضافة إلى أقرانهم اللامعين من البلاد المصرية والشامية والعراقية، وأعينهم مفتوحة على بوصلة فلسطين)، يفتح لنا آفاقاً جديدة في ساحات صراع مركزية وجديدة، وبه نحتفل، ونفرح.