سيناريو نهاية الحرب في عهد ترامب..
بعد دعواته لتهجير الغزيين، أعلن ترامب في مؤتمر صحافي مع نتنياهو في البيت الأبيض قبل يومين أن الولايات المتحدة ستتولى السيطرة على غزة بشكل دائم، وأيد نتنياهو الخطة على الفور، رغم عدم واقعيتها. أكد ترامب أنه يريد أن يمتلك غزة ويطورها لغير أهلها، بعد طرد الغزيين منها. وأضاف ترامب أنه سيوقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وسيتخذ قراراً قريباً، في غضون الأسابيع القريبة المقبلة، حول إمكانية ضم دولة الاحتلال للضفة الغربية. وتمنح تلك التصريحات نتنياهو مخرجاً لإنقاذ صفقة التبادل واستكمال المرحلة الثانية منها، بينما تحمي في ذات الوقت تماسك إئتلافه المتطرف من التفكك والإنهيار. فشدد نتنياهو على إلتزامه بتحقيق جميع أهداف الحرب على رأسها استعادة المحتجزين، وضمان ألا تشكل حركة حماس تهديداً في المستقبل، بتصريحات تبدو أكثر واقعية من تصريحات ترامب، بينما تحقق ذات الغاية بطمئنة ائتلافه. اعتبر ترامب أيضاً أن ما يمكن أن يمنع خروج الغزيين من غزة هو غياب البديل، وكرر دعوته للأردن ومصر لاستقبالهم، في ظل علمه بالرفض العربي القاطع لدعواته.
يشير البيان الصادر عن لقاء وزراء الخارجية العرب الستة في القاهرة، والتصريحات الصادرة عن البيت الأبيض والرئاسة المصرية حول ما جاء في اتصال ترامب بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قبل المؤتمر الصحافي لترامب ونتنياهو بأيام قليلة، إلى عدم وجود استجابة لتصريحات ترامب حول تهجير سكان غزة، وفهم ترامب لرسالة العرب. شكل البيان الصادر عن وزراء الخارجية جدار صد عربياًموحداً رافضاً لأية محاولة لتهجير الفلسطينيين من وطنهم. فرفضت المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، إلى جانب الأردن ومصر، وفلسطين بالطبع دعوات ترامب بذات الخصوص، وهي جميعها دول حليفة للولايات المتحدة. وتستثمر السعودية والإمارات وقطر مئات المليارات من الدولارات في الولايات المتحدة، كما أعلنت السعودية مؤخراً عن نيتها إستثمار ٦٠٠ مليار دولار إضافية خلال فترة ولاية ترامب الجارية. إن ذلك يعني أن تهديدات ترامب لدول المنطقة باستخدام ورقة الضغط المالي قد تصبح تهديدات متبادلة، وتحبط مخططات ترامب الاقتصادية والسياسية في المنطقة، وخصوصاً مع السعودية.
ورغم أن بيان الوزراء أكّد على استمرار الدعم الكامل لصمود الشعب الفلسطيني على أرضه، ودعم حقوقه غير القابلة للتصرف والمشروعة وفقاً للقانون الدولي، إلا أن لغة البيان رغم صرامتها فيما يتعلق بحقوق الفلسطينيين، جاءت لغة دبلوماسية ناعمة في مخاطبة ترامب. فرحب البيان بالتوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، وأكد على الدور المهم والمقدر للولايات المتحدة في انجاز ذلك الاتفاق، وشدد على الحاجة للعمل مع إدارة ترامب لتحقيق السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، وفقاً لحل الدولتين.
وفي سياق متصل، عكس التعليق الرسمي للحكومة المصرية والأميركية على فحوى الاتصال الذي أجراه ترامب مع الرئيس السيسي، والذي جاء بعد تصريحات الأول حول تهجير سكان غزة، عدم نجاح ذلك الأمر. فلم يتم التعليق من قبل الجهتين على موضوع التهجير، وغلبت لغة دبلوماسية ودية وتعاونية من قبل الطرفين في القضايا الثنائية، والتركيز على تثبيت وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وإيصال المساعدات لسكانه. وركز تعليق الرئاسة المصرية على رسالة الرئيس السيسي حول تعويل المجتمع الدولي على قدرة ترامب على التوصل إلى اتفاق سلام دائم وتاريخي ينهي حالة الصراع القائمة بالمنطقة منذ عقود، في تقاطع واضح مع ما جاء في بيان الوزراء العرب. وقد يشكل ذلك الموقف العربي الموحد تجاه القضية الفلسطينية رسالة مستقبلية للعالم تعكس القدرة السياسية والاقتصادية عموماً للدول العربية، والتي تشكل فعلياً قوة لا يمكن الاستهانة بها في التوازنات الدولية القائمة.
ويساعد عدد من المعطيات التي جاءت بها نتائج حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل في قطاع غزة في دعم الموقف العربي الموحد للتصدي لمؤامرات التهجير الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، التي تبناها ترامب، بحكم دعم بلاده المطلق لحليفتها الأهم في العالم. وأهم تلك المعطيات عدم نجاح خطة تهجير الفلسطينيين من شمال قطاع غزة، بل وعودة معظم السكان خلال المرحلة الأولى من الهدنة لأماكن سكنهم. كما أن عدم النجاح في تحييد حركة حماس، والسيطرة العسكرية والأمنية على قطاع غزة، يقوض مخططات إسرائيل التي وضعتها في بداية الحرب حول السيطرة الأمنية داخل القطاع، وتقطيع أوصال القطاع، والاستيطان فيه، وتهجير سكانه. وشكلت الأعداد الهائلة لضحايا هذه الحرب الهمجية بين قتلى وجرحى وأيتام وثكلى ومشردين سبباً اضافياً كي يضغط العالم لعدم العودة لهذه الحرب، خصوصاً بعد ما كشفت عنه الهدنة من تدمير للقطاع بأكمله. إن هذه المعطيات تطرح عدداً من التساؤلات حول جدوى مواصلة الحرب والتدمير والقتل بعد الهدنة في ظل عدم القدرة على القضاء على حركة حماس بعد أكثر من عام، وكم سيحتاج ذلك من وقت في حال استمرار القتال، وما هي حدود عدد الضحايا الإضافية التي سيسمح العالم بسقوطها بعد انتهاء الهدنة، في ظل بروز عدم جدوى لهذه الحرب وتكلفتها.
إن هذه المعطيات والتساؤلات تفسر سلوك ترامب بفرض الهدنة في غزة رغم مخاطر سقوط الحكومة الإسرائيلية، وقبول نتنياهو بها، رغم مماطلته السابقة، ووفق شروط كان يرفضها قبل ذلك. وأكدت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية أنه لا يمكن اعتبار أن حركة حماس انتهت، فقد استطاعت الصمود رغم تعرضها لضربات عسكرية قاسية، وتصفية جزء كبير من قيادتها، سواء على المستوى العسكري أو السياسي. إن تلك التطورات أيضاً تحبط مخططات نتنياهو المتعلقة بالبقاء في غزة بعد الحرب، فقد عبر وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، والذي خاض حرب الإبادة في غزة إلى جانب نتنياهو، عن رفضه لسيطرة إسرائيل العسكرية أو المدنية على قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، ودعا إلى وجود بديل فلسطيني لحركة حماس ليحكم القطاع. في حين أكد نتنياهو في المؤتمر الصحافي الأخير مع ترامب على التزامه بضمان ألا تشكل حركة حماس تهديداً في المستقبل.
وقد تكون مقاربة العودة للحرب بعد تخطي مراحل الهدنة الجاري العمل بها بعيدة عن الواقع، لعدة أسباب أهمها عدم رغبة ترامب بحدوث ذلك. ويكمن هدف ترامب الرئيس في توقيع صفقات التكنولوجيا والدفاع بمليارات الدولارات مع السعودية، الأمر الذي يحتاج إلى الهدوء ووقف إطلاق النار ليس في غزة فقط بل وفي لبنان أيضاً ومع إيران إن أمكن. ورغم رفض نتنياهو لعودة السلطة لحكم القطاع، اعتبر داني دانون، سفير إسرائيل في الأمم المتحدة، أن السلطة الفلسطينية ضعيفة، وحتى لو تم الموافقة على توليها إدارة غزة، فمن غير المتوقع أن تكون قادرة على ذلك، ومع ذلك فإن إسرائيل قبلت الانسحاب من أجزاء مهمة من معبر فيلادلفيا ومحور نيتساريم، وسمحت بإعادة العمل في معبر رفح وفق الاتفاق الموقع عام ٢٠٠٥، بوجود إدارة مشتركة للسلطة الفلسطينية والاتحاد الأوروبي ومصر. يأتي ذلك في ظل عدم قدرة إسرائيل على طرح بديل معقول لحكم غزة. لقد حاولت إسرائيل خلال فترة الحرب استقطاب بعض الوجهاء الغزيين لتشكيل بديل لحكم حركة حماس في غزة، إلا أنها لم تنجح. كما حاولت بناء تحالف عربي للقيام بتلك المهمة، إلا أنها لم تجد تعاوناً، في ظل رفضها لفكرة التواصل بين الضفة وغزة وعدم قبولها بدولة فلسطينية.
قد يكون نتنياهو بحاجة للخروج من هذه الحرب أو «النزول عن الشجرة» بأقل الخسائر الممكنة، وقد تكون تصريحات ترامب الأخيرة حول غزة المخرج الذي يمنحه لنتنياهو، والتي تساعده في البقاء في الحكم، بينما تستكمل مراحل الهدنة وصولاً لنهاية الحرب. ورغم أن حركة حماس أثبتت، خلال الحرب وبعد سريان الهدنة، قدرة معقولة على السيطرة على القطاع، خصوصاً في ظل اللحظات العصيبة التي يمر بها، إلا أنها أبدت مرونة حول عدم وجودها بشكل مباشر في إدارة القطاع، ووافقت على فكرة إنشاء حكومة تكنوقراط أو لجنة الإسناد المجتمعي، ضمن توافق فلسطيني. وترفض الولايات المتحدة وجود حركة حماس في إدارة قطاع غزة، وتوافق على عودة السلطة الفلسطينية. وستوافق إسرائيل على إنهاء الحرب وفق صيغة تضمن عدم وجود حركة حماس في الحكم. وتميل الدول العربية أيضاً لتولي السلطة الفلسطينية لمهمة إدارة القطاع بعد الحرب. وقد يكون ذلك أكثر الاطروحات واقعية، ويكون مصحوباً بالتعاون مع بعض الدول العربية، وتشكيل قوة عربية أو دولية لضبط وضع القطاع بعد الحرب، وفتح الأفق أمام الانتخابات في فلسطين وتحقيق الإعمار في غزة. ونقف حالياً أمام معضلتين الأولى تتمحور حول ضرورة ترتيب الوضع الفلسطيني داخلياً، وفق توافق وطني صلب وتكتل شعبي داعم، كي يتمكن الفلسطينيّيون بالفعل من تجاوز التحديات القادمة، وكي يكونوا قادرين كذلك على إقناع العالم بقدرتهم على ذلك، بينما تكمن المعضلة الثانية في مدى القدرة على الاحتفاظ بالقدرة العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، والذي يواجه يواجه رفضاً إسرائيلياً أميركياً حاسماً، ويرجعنا ذلك لضرورة حل المعضلة الأولى، للتنسيق فلسطينياً وعربياً وإقليمياً، وفق صيغة حكيمة تمنح الفلسطينيين أكبر المكاسب الممكنة، في ظل الموقف العربي الحالي، وتكبد أقل الخسائر المحتملة في ظل شروط ما بعد الحرب.