منذ أن أغلقت إسرائيل أبواب قطاع غزة أمام الصحافيين الأجانب في أكتوبر 2023، أصبحت غادة الكرد، الصحافية الفلسطينية البالغة من العمر 39 عامًا، بمثابة “العين الوحيدة” لمجلة “دير شبيغل” الألمانية داخل المنطقة المنكوبة.

وعلى مدار شهور من القصف والمجاعة والانقطاع التام للكهرباء والماء والاتصال، نقلت غادة التفاصيل التي لم يعد بمقدور أحد الوصول إليها، إلا من كان يعيشها بنفسه، لكن مع مرور الوقت، تحوّلت غادة من راوية للمأساة، إلى واحدة من ضحاياها الصامتين.

صحافية تحت الحصار
في خريف عام 2023، وبينما كانت غزة تدخل فصلاً جديدًا من الحرب، وجدت “دير شبيغل” نفسها كغيرها من وسائل الإعلام الدولية أمام واقع صعب، الحظر الإسرائيلي حال دون وصول أي صحافي أجنبي إلى القطاع. فكان الخيار الوحيد هو الاعتماد على “الصحافيين المحليين“، وهم أولئك الذين يعيشون داخل القطاع ويملكون القدرة على العمل، رغم الخطر اليومي على حياتهم. لكن غادة نفسها باتت ضحية للحصار والجوع.

في رسائلها الأخيرة للمجلة، بدا صوتها أضعف، ونبرة يأسها أوضح. كتبت في أحد تقاريرها الصوتية: “لا نأكل شيئًا. نترك ما تبقى للأطفال، ونشرب الماء لنخفي الصداع فقط”.

غادة الكرد، التي تعاونت سابقًا مع مؤسسات إعلامية ألمانية، لم تكن مجرد “مساعدة ميدانية”، بل تحولت إلى مراسلة حقيقية، توثق بكاميرا هاتفها المحطمة، وقلمها المثقل بالألم، مشاهد الحياة والموت تحت القصف. في إحدى الرسائل التي بعثتها إلى المجلة الألمانية كتبت: “لا نملك شيئًا. لا أدوية، لا ماء، لا وقود، نغلي الأعشاب ونُخبئ الخبز للأطفال”.

شبيغل تعلن عن قلقها
في تقرير حديث نُشر على موقع المجلة، أشارت هيئة التحرير إلى قلقها المتزايد على حياة غادة، وجاء في نص التقرير: “غادة ليست موظفة عابرة، بل شريكتنا في تغطية الحدث من الداخل. إنها الصوت الذي لم ينكسر رغم الدمار، والآن نخشى أن نخسره وسط صمت العالم”.

وقد أكد فريق التحرير أنهم لم يتلقوا أي رسالة منها منذ الأسبوع الأخير من يونيو، وأن جميع محاولات التواصل معها باءت بالفشل.

نزوح متكرر
بعد سلسلة من الضربات الجوية التي طالت حيّها في غزة، اضطرت غادة لمغادرة بيتها واللجوء إلى مناطق مختلفة، بدءًا من خان يونس، ثم إلى رفح جنوبًا، ضمن موجة النزوح الجماعي التي طالت أكثر من مليون ونصف فلسطيني.

لكن المفارقة حدثت في يناير 2025، حينما سُمِح مؤقتًا بعبور بعض النازحين شمالًا. اغتنمت غادة الفرصة، ونجحت في الوصول إلى منزل عائلتها الذي دُمّر جزئيًا. وهناك، التقت مجددًا بابنتيها بعد فراق استمر 16 شهرًا.

“احتضنتهما، ولم أعرف إن كنت أحلم أم أعيش الحقيقة”. هكذا وصفت اللحظة في رسالة صوتية أرسلتها إلى “شبيغل”.

لكن لحظة الفرح تلك لم تدم طويلاً. فمع بداية شهر مارس، استُؤنفت العمليات العسكرية على مناطق الشمال، وعادت غزة إلى ظلام دامس، لا كهرباء، لا إمدادات، لا غذاء. ومع انهيار شبه تام للمنظومة الصحية، بدأت المجاعة تضرب السكان بقسوة.

غادة، التي لطالما كانت المصدر الحيّ للمجلة الألمانية، أصبحت نفسها غير قادرة على الحديث. في تسجيل صوتي أرسلته بدت نبرة صوتها واهنة وهي تقول: أشعر أنني أختفي. لم آكل شيئًا منذ ثلاثة أيام. كل ما نملكه نرسله إلى الأطفال”.

في الأسبوع التالي، أُعلن عن وفاة والدها نتيجة مضاعفات مرض السكري وسوء التغذية، في حين نُقل عن جيرانها أن أحد أشقائها استشهد في قصف استهدف الشارع المقابل لمنزلهم.

غادة يجب أن تعيش
وتقول شبيغل: “لا تُعرف الظروف التي تمر بها غادة الآن بدقة، آخر رسالة وصلت من هاتفها كانت منذ أيام، بصوت مرتجف، تشير إلى ضعف شديد في الجسد ونفاد الغذاء”. فريق التحرير في “شبيغل” عبّر عن قلقه الشديد، مؤكدًا أنه يتابع حالتها، ويطالب بالسماح بإدخال المساعدات فورًا، مؤكدا أن “غادة ليست فقط مراسلة. إنها شريكتنا في كشف الحقيقة، لكنها أيضًا إنسانة تعاني وسط تجاهل العالم”.

قصة غادة هي قصة المراسلين المحليين في مناطق النزاع، هم شهود حقيقيون، لكنهم غالبًا ضحايا لا يُلتفت إليهم. وهي أيضًا قصة أم، صحافية، وامرأة تصر على الحياة… فقط لترويها كما هي.

شاركها.