صحيفة إسرائيلية: وكأن العالم يعرف طباعنا قبل 7 أكتوبر.. ألم نقل “نحارب حيوانات بشرية”؟
هآرتس بقلم ايريس ليعال
بعد أسبوع على 7 أكتوبر، انضممت لمجموعة أكاديميين وناشطين ومفكرين يساريين، يهود وعرب، لصياغة رسالة مستعجلة لمجموعات يسارية في العالم، التي رفضت إدانة هجوم حماس. فهي أنكرت اغتصاب رجال حماس للنساء والتنكيل بالضحايا قبل ذبحهم ثم التنكيل بجثثهم، أو أنهم قتلوا الأطفال الرضع ودمروا عائلات وتجمعات كاملة. إنما أرادوا إدخال الأحداث في سياق الحوار ما بعد الكولونيالي.
سادية حماس البربرية صمت الأذن عما تطور بوضوح إلى درجة انتقام إسرائيل بشكل وحشي وقاتل بدعم الأغلبية الساحقة من الجمهور، الذي اختفى وراء ذريعة الدفاع عن النفس. المبادرون إلى الرسالة حددوا لقاء عبر “زووم” الجمعة في 13 تشرين الأول؛ لمناقشة النقاط التي كان ضرورياً ظهورها في الرسالة. وكان من بيننا أسماء جدية لها سمعة دولية وعلاقات مع وسائل الإعلام واليسار العالمي، وأشخاص مؤثرين في الأكاديميا، وكُتاب حصلوا على جوائز دولية ومثقفين بارزين. أردنا إنتاج تجربة مشتركة مع اليسار، يضطرون في نهايتها للاعتراف بانغلاقهم تجاه معاناتنا. ولكننا كنا في بلاد أخرى بالمعنى الجغرافي، وبالأساس من ناحية زاوية الرؤية.
عندما أصررت على أن تتطرق الرسالة إلى المس بالسكان الغزيين، واجهت رداً متردداً، باستثناء ناشطة اجتماعية واحدة، كانت حتى تلك اللحظة يسارية – شرقية – راديكالية. احتجت ضدي بشكل صارم، وقالت هذا هو وقتنا الآن، ولا أريد تقاسمه مع الغزيين والفلسطينيين. نحن الضحايا (لقد غرست إصبعها في صدري على الأقل مرتين وهي تشير إلى نفسها للتأكد من أن الجميع يعرف من هم الضحايا الحقيقيون)، نحن، فقط نحن.
نظرت بفضول إلى صورتها في مركز المربع على الشاشة؛ كانت صاخبة، وذكرت أنها أم لأطفال من أجل تعزيز ادعائها. لم أستطع إنكار البراءة التي تحدثت بها. والأعصاب التي كانت تزن في مؤخرة رقبتي مثل بعوض الصيف، عند سماع أقوالها. في حينه، لم أكن أتخيل أن أكثر من 15 ألف طفل فلسطيني سيموتون نتيجة القصف المباشر أو نتيجة الإصابة والأمراض التي لم يتم علاجها بسبب نقص المعدات أو نتيجة إطلاق النار مباشرة على الرأس. لم أتخيل أن الشباب سيكونون دروعاً بشرية للجنود، وأن الأطفال سيموتون بسبب انخفاض درجة حرارة الجسم.
في نهاية المطاف، كتبنا: “لا تناقض بين معارضة قمع الفلسطينيين واحتلالهم، وبين إدانة أعمال العنف الوحشية ضد المواطنين الإسرائيليين الأبرياء. في الواقع، يجب على كل رجل وامرأة في اليسار تبني الموقفين في الوقت نفسه”. ولكن عندما أفكر في الأمر الآن، أعرف أنها عبرت عن الحالة الذهنية لجميع الإسرائيليين، وأنني في تلك اللحظة سمعت ما سيصبح للمرة الأولى الحجة العاطفية السائدة حتى في أوساط الذين كانوا يساريين ذات يوم، وهي أن كل شخص يظهر الرحمة للقساة، سينتهي به الأمر إلى أن يكون قاسياً مع الرحيمين. الأطفال الذين قتلوا في غزة هم الإرهابيون القادمون. بعد 7 أكتوبر، لا رحمة للأعداء. بالطبع، كانت الموضة التي حصلنا عليها في ذلك الخريف والشتاء، أنه لا يوجد أشخاص غير متورطين.
في الأسبوع الأول للحرب، فرضت إسرائيل حصاراً شاملاً على قطاع غزة وأمرت 1.1 مليون من سكانه بإخلاء بيوتهم خلال 24 ساعة. 2215 شخصاً قتلوا، بينهم عشرات الأطفال. في الأيام الستة الأولى للحرب، ألقى سلاح الجو 850 قنبلة في اليوم. كان الأسبوع الأكثر دموية في الحرب، المعيار في اليومين الأولين كان أنه مسموح المس بـ 500 شخص غير متورط في اليوم. بعد يومين، ألغوا هذا القيد تماماً.
حتى الآن، لم ندرك المعنى الحقيقي للأرقام أو أقوال وزير الدفاع يوآف غالانت، الذي قال “نحن نحارب حيوانات، ونتصرف وفقاً لذلك”. في حينه كان يمكن تشخيص الخطاب المألوف الذي يمهد الطريق لتحقيق خيال الإبادة لجنس الحيوان المعروف باسم حيوانات بشرية، الذي يعيش في القطاع. ولكن نحن الإسرائيليين، كنا غارقين تماماً في الكارثة التي نزلت علينا، في حالة صدمة وذهول من الصور وأفلام الفيديو التي وثقتها حماس بكاميرات الـ “جو برو”، التي وثقت فيها كل أشكال الذل والتدمير الممكنة للناس وبيئتهم الشخصية وبيوتهم، والتشويه والإحراق وتدمير الجسد والحجر.
بعد أسبوع من ذلك، بدت الفجوة بين الواقع في غزة والتوارع الطفولي الذي يبثه التلفزيون، والذي تضمن أيضاً التحريض على الطرد والتطهير العرقي والإبادة الجماعية مشوشة. عندما كان الجميع يلتصقون بنشرات الأخبار ويشاهدون باستحواذ مرضي الأفلام التي توثق الفظائع التي حدثت في بلدات الغلاف، ويتمتمون “هذا أمر لا يمكن تخيله”، أصبح الإسرائيليون مخططين وحضريين ويوصون بالأحياء التي يجب محوها، ويتذمرون من تلكؤ إسرائيل في تسوية المناطق بالسرعة الكافية. لم يكن بالإمكان الجسر بين هذين الواقعين، المذبحة والمخطوفين من جهة، وطرد 1.1 مليون غزي الذين يعيشون في شمال القطاع قبل الغزو البري المتوقع من جهة أخرى. كان على أحد أن يكون الضحية المطلقة، إما الإسرائيليون الذين ثارت في ذاكرتهم الجماعية ذكرى المطاردة والقمع بكل القوة والمذابح والتدمير الجماعي، أو الفلسطينيون الذين ثار فيهم الخوف من إمكانية حدوث نكبة ثانية – صدمتان متنافستان أعادتا حماس والحرب في غزة تنشيطهما.
كان يمكنني التشكك في أنه حدث هنا استخدام متلاعب للصدمة في الطرفين، لو لم أشاهد صور جموع الفلسطينيين، الذين مروا هم وآباؤهم في النكبة الأولى في 1948 تاركين بيوتهم مرة أخرى حاملين الأغراض التي نجحوا في إحضارها معهم إلى “المناطق الآمنة”، التي وجههم الجيش إليها – حتى هناك، للفظاعة، تم قتلهم بنار الجيش الإسرائيلي. إذا لم أتذكر رد فعل الكاتب والناجي من الكارثة أهارون ابلفيلد على الهجوم على أبراج التوائم في أيلول 2001. بعد أسبوع كتب في مجلة “نيويوركر” وأشار أيضاً إلى روتين العمليات في تلك الفترة في إسرائيل والقدس وقال “الكوارث اليومية تستحضر صور الكارثة، لقد مرت 56 سنة ولم تفارقني الصور منذ ذلك الحين”. وأضاف قصة أحد معارفه، أحد الناجين من الكارثة، الذي قال في تلك الأيام: “كنا ساذجين عندما اعتقدنا أن الغضب من وكراهية اليهود ستختفي فور الحصول على دولة خاصة بنا”.
إن تحول أعداء إسرائيل إلى نازيين ليس بالأمر الجديد. فخلال حرب لبنان قال مناحيم بيغن “كنا نقاتل نازيين”، وهو الخطاب الذي وصفه الكاتب الناجي من أوشفيتس، ريمو ليفي، بأنها “غطرسة بيغن ورجاله الملطخة بالدماء”. وكان ليفي شاهداً على الجدل بين المؤرخين في ألمانيا في ثمانينيات القرن العشرين حول ما إذا كانت إبادة اليهود حدثاً فريداً في نوعه. يمكن التملص من هذه المناقشة مثلما فعل المؤرخون في نهاية المطاف، والتقرير بأن كل حدث تاريخي فريد في نوعه. لحسن الحظ أن هذا الكاتب أنهى حياته قبل رؤية كيف قادنا نتنياهو للكارثة وتآكل مكانتها باعتبارها درساً أخلاقياً لكل البشرية. وبعد سنة ونصف على الحرب، لم يتردد من يعارضون إسرائيل في عرض إسرائيل نفسها كمن ترتكب كارثة.
المؤرخ الإيطالي، الخبير الذي له سمعة دولية في سياسة الذاكرة، أنزو ترفارسو، حذر بعد بضعة أسابيع على هجوم حماس من التأثير الذي سيكون لاستخدام ذكرى الكارثة من أجل تبرير “حرب الإبادة الجماعية، حسب رأيه، التي شنتها إسرائيل في غزة: “7 أكتوبر كان مذبحة صادمة، لكن وصفها بأنها المذبحة الأكبر في التاريخ بعد الكارثة يعني التلميح إلى أن هناك تواصلاً ضرورياً بين الحدثين، ما سيؤدي إلى تفسير بسيط؛ وهو أن ما حدث في 7 أكتوبر لم يكن تعبيراً عن الكراهية التي نشأت من عقود العنف الممنهج والنهب التي عانى منها الفلسطينيون، بل كانت فصلاً آخر في تسلسل تاريخي طويل من اللاسامية، التي بدأت بمناوأة اليهود في القرون الوسطى وحتى الكارثة ومروراً بالمذابح في الإمبراطورية القيصرية. بهذا التفسير، ستلعب حماس دور الأفيتار الحالي اللاسامي الأبدي” (مقابلة نشرت في 28 تشرين الثاني 2023، مدونة دار النشر فيرسو).
ايريس ليعال