في السنوات الأخيرة، وعلى مدى العقود الماضية، تعرّض قطاع غزة لأزمات متكرّرة من الحروب، والهجمات العسكرية، والحصار المحكم، والنزوح والتجويع، مما أدّى إلى تدمير واسع للبنى التحتية الحيوية، بما فيها المدارس والجامعات والمرافق التعليمية. وتفاقمت الأضرار التي ألمّت بقطاع التعليم عقب اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، حيث توقفت الدراسة النظامية لآلاف الأطفال بشكل دائم  لمدة عامين على التوالي، ودخل الانقطاع عن التعليم عامه الثالث حتى الآن، مما أدى إلى انخفاض فرص التعلم لدى المتعلمين بصورة حادة. وتُشير تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية إلى أن الأطفال في غزة قد يخسرون ما يصل إلى خمس سنوات من التعليم إذا استمر الوضع على حاله. 

لكنّ سؤالاً أساسياً يطرح نفسه: كيف يكتسب هؤلاء الأطفال المعرفة في ظل هذه الظروف القصوى، تحت القصف، النزوح، نقص الموارد، والتأثر النفسي الناتج عن ذلك كله؟ سأستعرض في هذا المقال أثر الحرب على التعليم في غزة، والتحديات التي يواجهها الأطفال والمعلّمون داخل القطاع، والوسائل المبتكرة التي يعتمدونها للتعلّم والصمود، مع التوقف عند بعض التوصيات التي من شأنها أن تسهم في حماية التعليم ومستقبله.

واقع تأثير الحرب وأثرها على المتعلمين في غزة:

تشير تقارير حقوقية، مثل تقرير مؤسسة الميزان لحقوق الإنسان، إلى أنّ القطاع التعليمي في غزة كان من أبرز المتضررين جراء العمليات العسكرية. فقد تعرّضت مئات المدارس للاستهداف المباشر وغير المباشر، حيث سُجّل تدمير أو تضرّر ما يزيد عن 165 مدرسة من أصل 563 مبنى مدرسي قائم، بينما تحوّل عدد كبير من المدارس الأخرى إلى ملاجئ تؤوي النازحين. هذا التحوّل البنيوي لمؤسسات التعليم الأساسي أدّى إلى تعطيل العملية التعليمية، وحرمان آلاف الطلبة من بيئة دراسية آمنة ومستقرة. الأمر نفسه انسحب على الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، التي لم تكن بمنأى عن الدمار والتعطيل؛ حيث تضرّرت المرافق البحثية وتعطّلت الأنشطة الأكاديمية، فيما توقفت العديد من المشاريع العلمية والبحثية، وهو ما انعكس بصورة مباشرة على النمو المهني والمعرفي للطلبة والأكاديميين على حد سواء.

إلى جانب الخسائر المادية، برز الأثر النفسي والمعرفي كأحد أخطر تداعيات الحرب على المتعلمين. إذ يواجه الأطفال والمراهقون في غزة مستويات مرتفعة من الصدمة النفسية والقلق والاكتئاب، نتيجة فقدان أحبائهم، ومشاهدتهم للأحداث العنيفة، وتجارب التهجير وفقدان الأمن. هذه الظروف أدّت إلى اضطرابات سلوكية ومعرفية تتجلى في ضعف التركيز، وتدهور الذاكرة، وصعوبات في معالجة المعلومات وحل المشكلات. كما أن الحرمان من النوم المنتظم والتغذية السليمة ساهم في تعميق الفاقد التعليمي والمعرفي، وهو ما أكدته دراسات عديدة تربط بين الإصابات النفسية واضطراب الأداء التعليمي.

أما على مستوى انتظام التعليم، فقد أدى إغلاق المدارس أو تحويلها إلى مراكز إيواء جماعي إلى انقطاع شبه تام للتعليم النظامي. فالمباني التي كانت معدّة للتدريس تحوّلت إلى أماكن مكتظة للنازحين، ما قلّص بشدة من قدرتها على القيام بوظيفتها التعليمية. وقد خلّف ذلك خسائر زمنية كبيرة في المسار الدراسي، حيث أشار تقرير مشترك بين وكالة الأونروا وجامعة كامبريدج إلى أن طلبة غزة خسروا نحو 14 شهرًا من التعليم منذ عام 2019، نتيجة تداخل جائحة كورونا والأزمات العسكرية المتكررة، ثم جاءت حرب أكتوبر 2023 لتضاعف حجم الفاقد التعليمي. وفي السياق ذاته، ورغم محاولات بعض الجامعات اعتماد التعليم الإلكتروني كبديل، إلا أن محدودية الإنترنت، وانقطاع الكهرباء، وضعف الإمكانات التقنية، إضافة إلى الضغوط النفسية، جعلت هذا النمط من التعلم مرهقًا وغير فعّال، بل وارتبط بزيادة مستويات القلق والاكتئاب لدى الطلبة.

ورغم جسامة هذه التحديات، ظهرت مبادرات للتكيّف ودعم استمرار التعليم. فقد أنشأت الأونروا وعدد من المنظمات الإنسانية مساحات تعليمية مؤقتة (Temporary Learning Spaces) داخل بعض المدارس غير المتضررة أو في مراكز الإيواء، لتقديم أنشطة أساسية في مجالات محو الأمية والرياضيات، إضافة إلى أنشطة ترفيهية. كما جرى دمج الدعم النفسيالاجتماعي مع العملية التعليمية، من خلال أنشطة تساعد الأطفال على التعبير عن مشاعرهم، والتعامل مع الفقدان، وإدارة الخوف والقلق. وأكدت تقارير متخصصة أن هذا النوع من الدعم يُعدّ ضرورة تربوية لضمان الحفاظ على جودة التعلم، وتقليل الأثر السلبي العميق الذي تتركه الحرب على المسيرة التعليمية والنمو النفسي للمتعلمين.

الاستفادة من التقنيات الرقمية حين تتوفّر البنية:

على الرغم من محدودية البنية التحتية الرقمية في غزة نتيجة التدمير المتكرر لشبكات الكهرباء والاتصالات، فإن بعض الجامعات وشرائح من الطلبة حاولوا الاستفادة من التقنيات الرقمية كلما سنحت الظروف. وقد مثّل هذا التوجّه خيارًا استراتيجيًا اضطراريًا، إذ سعت المؤسسات الأكاديمية إلى ضمان الحد الأدنى من الاستمرارية التعليمية، ولو بشكل جزئي، عبر التعليم عن بُعد أو المزج بين التعليم الحضوري المحدود والافتراضي. ومع أنّ البيئة المحيطة لم تكن مهيّأة لدعم هذه التحولات بشكل مستدام، فإنها كشفت عن إمكانات كامنة للتعليم الرقمي في السياقات الطارئة.

في هذا الإطار، لجأت بعض الجامعات إلى إنشاء منصات إلكترونية بديلة أو توسيع استخدام المنصات العالمية المتاحة، مثل Google Classroom وMicrosoft Teams وZoom، لتيسير عملية نقل المحتوى الأكاديمي والتواصل مع الطلبة. ومع أنّ انقطاع الكهرباء المتكرر وغياب الإنترنت المستقر جعلا من هذه التجارب متقطعة، فإنها أسهمت في الحفاظ على جسور معرفية بين الطلبة وأساتذتهم. هذا النمط من التعليم ساعد في بعض الحالات على تقليل الشعور بالعزلة الأكاديمية، خصوصاً بين طلبة التعليم العالي الذين توقفت محاضراتهم فجأة. وقد رُصدت محاولات فردية لأساتذة وطلبة استخدموا أجهزة شخصية وهواتف محمولة للدخول إلى الفصول الافتراضية من داخل منازل متضرّرة أو حتى ما تبقى من مراكز الإيواء بعد تدمير 90% منها.

ولم يكن توظيف التعليم الرقمي في هذه الظروف خالياً من التحديات البنيوية والنفسية. فعلى المستوى التقني، شكّل ضعف الاتصال بالإنترنت وغياب أجهزة الحاسوب الكافية عائقًا رئيسيًا أمام المشاركة الفعّالة. كثير من الطلبة لا يمتلكون سوى هواتف بسيطة، ما حدّ من قدرتهم على تنزيل المواد أو التفاعل مع الأنشطة التعليمية التفاعلية. إضافة إلى ذلك، فإن انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة جعل من الاستمرارية الرقمية أمرًا بالغ الصعوبة، حيث اضطر الطلبة إلى تنظيم وقتهم الدراسي وفق جدول الكهرباء أو اللجوء إلى المولدات الخاصة، وهو ما أضاف أعباء مالية لا يمكن لغالبية الأسر تحمّلها في ظل الظروف الاقتصادية المتدهورة.

أما على الصعيد النفسي والتربوي، فقد أظهرت الدراسات الحديثة أنّ التعليم الرقمي في بيئات النزاع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بزيادة مستويات القلق والتوتر لدى الطلبة. فالتحديات التقنية المستمرة تولّد لديهم شعورًا بالعجز، بينما تعمّق الأوضاع الأمنية غير المستقرة الضغط النفسي. كما أن البيئة غير المهيّأة في الملاجئ أو البيوت المهدّمة التي تفتقر ألى الخصوصية والأمان وتجعل من التعلّم الرقمي مهمة شبه مستحيلة. وبالتالي، حتى حين تتوفّر الأدوات الرقمية، فإن فعاليتها تبقى مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية المحيطة.

مع ذلك، كشفت هذه التجارب عن جوانب إيجابية تستحق الدراسة. فقد أتاح التعليم الرقمي لبعض الطلبة المرونة في متابعة المحاضرات المسجّلة لاحقًا، ما منحهم إمكانية التعويض الجزئي عن الحصص الفائتة. كما ساهمت المنصات الرقمية في إبقاء الطلبة على اتصال نسبي بالمصادر العالمية للمعرفة، مثل المكتبات الرقمية والدوريات العلمية، وهو ما مثّل نافذة مهمة للحفاظ على استمرارية البحث الأكاديمي في ظل الانقطاع المادي عن قاعات الدراسة. هذه الفوائد الجزئية تؤكد أنّ الاستثمار في البنية التحتية الرقمية وتعزيز مهارات التعلم الإلكتروني ليس رفاهية، بل هو ضرورة تربوية وأكاديمية في مناطق الحروب والنزاعات.

وبرغم ذلك، من الناحية المؤسسية، يمكن القول إن التجربة الرقمية المحدودة التي فرضتها الحرب قد تفتح المجال أمام التفكير في سياسات تعليمية أكثر مرونة. فالتعليم المدمج “الهجين” (Blended Learning) يمكن أن يكون خياراً استراتيجياً مستقبلياً يدمج بين التعليم الوجاهي “الحضوريّ” حين يكون ممكنناً والتعليم الرقمي حين تتعطل الظروف. غير أن هذا يتطلب أولاً إعادة بناء شبكات الكهرباء والاتصالات بشكل مستقر، وتوفير الأجهزة الرقمية للطلبة، إلى جانب تدريب الكوادر الأكاديمية على تصميم وتنفيذ مناهج رقمية وبرامج تعليمية تراعي الأبعاد النفسية والاجتماعية للمتعلمين في السياقات الطارئة.

كما تبرز هنا أهمية الدعم الدولي، حيث يمكن للجهات المانحة والجامعات العالمية الشريكة أن تسهم في تقديم منح رقمية، أو إتاحة وصول مجاني إلى المنصات التعليمية، أو حتى توفير محتوى رقمي متكامل باللغة العربية. مثل هذه المبادرات يمكن أن تخفف من الفجوة الرقمية، وتمنح الطلبة الفلسطينيين فرصة للحفاظ على حد أدنى من التعلّم، بما يحمي مسيرتهم الأكاديمية من الانقطاع التام.

خلاصة القول، إن الاستفادة من التقنيات الرقمية في غزة تمثل تجربة محدودة لكنها دالة على قدرة المجتمع الأكاديمي على التكيّف والإبداع في مواجهة الأزمات. ورغم كل الصعوبات، فإن هذه التجارب أظهرت أن التعليم الرقمي حتى حين يُمارس من داخل المنازل المتضرّرة أو الملاجئ يمكن أن يشكل خط حياة أكاديمي ونفسي لبعض الطلبة نوعاً ما. إلا أن استدامة هذا التوجّه مرهونة بمدى توافر البنية التحتية الرقمية، والدعم المؤسسي، والمعالجة الجادة للعوامل النفسية والاجتماعية التي تحيط بالمتعلمين. ومن هنا، يصبح تعزيز التعليم الرقمي في غزة ليس خياراً طارئاً فحسب، بل استثماراً استراتيجياً لضمان الحق في التعليم في أحلك الظروف.

الدعم المجتمعي للتعليم:

في ظل الانهيار شبه التام للبنية التعليمية الرسمية في غزة، برز الدور الحاسم للأسر والمجتمعات المحلية في دعم العملية التعليمية وحماية حق الأطفال في التعلم. فقد تحوّل البيت، في كثير من الحالات، إلى بديل مؤقت للمدرسة، حيث سعى الأهل إلى خلق مساحات آمنة داخل حدود الممكن، تُشجع الأطفال على مواصلة التعلّم وتمنحهم إحساسًا بالاستقرار النفسي. ورغم أن هذه الجهود كانت محدودة بالإمكانات المادية والبشرية المتاحة، إلا أنها جسّدت قيمة التكافل المجتمعي، وأسهمت في سدّ جزء من الفجوة التعليمية.

يلعب الأهل دورًا جوهريًا في هذا السياق، إذ عملوا على ابتكار استراتيجيات بديلة لمواصلة التعليم داخل الأسرة. فقد وفّر العديد منهم مواد تعليمية بسيطة مثل الدفاتر والأقلام أو نسخ مصغّرة من الكتب، وشجّعوا أبناءهم على القراءة والمراجعة اليومية بما يتوفر من مصادر. كما لجأ بعض الآباء والأمهات إلى سرد القصص الشعبية والتاريخية، أو تنظيم جلسات تعليمية عائلية تهدف إلى تحفيز النقاش والتفكير النقدي. هذه الأنشطة، رغم بساطتها، ساعدت الأطفال على الحفاظ على صلتهم بالمعرفة، وخفّفت من وقع الانقطاع المدرسي الطويل.

أما المجتمع المحلي الغزّي فقد أظهرت بدوره قدرة لافتة على التكيّف و المبادرة. إذ تطوع عدد من المعلمين والمعلمات لتقديم دروس جماعية أو فردية في أماكن بديلة، مثل مراكز الإيواء أو الخيام أو حتى الساحات العامة، معتمدين على خبراتهم الشخصية وموارد متواضعة. كما تعاونت بعض المؤسسات الأهلية والمبادرات الشبابية على توزيع مواد تعليمية، وتنظيم أنشطة ترفيهية تعليمية للأطفال، بهدف دمج الدعم النفسي مع التعلّم. وقد أتاح هذا النوع من المبادرات للأطفال فرصة استعادة بعض الروتين التعليمي، والشعور بالانتماء لمجتمع داعم يتقاسم معهم التحديات والأحلام.

إلى جانب ذلك، ساهم الدعم المجتمعي والعائلي في تعزيز الصمود النفسي للأطفال. فالتفاعل اليومي مع الأهل والمعلمين المتطوعين وفر مساحة آمنة للتعبير عن المشاعر والتجارب، ما خفّف من حدة القلق والخوف المرتبطين بالحرب. كما أظهر الأطفال قدرة أعلى على التكيف عندما شعروا بأن عائلاتهم ومجتمعهم يشاركونهم مسؤولية مواصلة التعلّم. هذا البعد النفسيالتربوي لا يقل أهمية عن البعد الأكاديمي، إذ يسهم في بناء المرونة النفسية الضرورية لمواجهة الأزمات طويلة الأمد.

وبالرغم من التحديات الكبيرة مثل شح الموارد، وازدحام أماكن النزوح، وانعدام الاستقرار والأمان، إلا أن الدور المجتمعي والعائلي ظل ركيزة أساسية لاستمرار العملية التعليمية. فهو يبرهن على أن التعليم ليس مسؤولية المؤسسات الرسمية وحدها، بل هو مسؤولية تشاركية، وأن استثمار رأس المال الاجتماعي والثقافي يمكن أن يشكل خط دفاع أول لحماية حق الأطفال في التعلم في أشد الظروف قسوة.

التحديات التي تواجه التعلم في غزة:

يواجه قطاع التعليم في غزة جملة من التحديات المعقدة التي تعرقل استمرارية العملية التعليمية وتؤثر في جودتها. فمن الناحية المادية، أدت الهجمات المتكررة إلى تدمير واسع للمدارس والجامعات، وتحويل كثير منها إلى ملاجئ للنازحين، مما حرم آلاف الطلبة من بيئة تعليمية آمنة. أما من الناحية التقنية، فإن انقطاع الكهرباء المستمر وضعف شبكة الإنترنت حالا دون الاستفادة الفعّالة من أنماط التعليم الرقمي أو البديل. يضاف إلى ذلك التحديات الاقتصادية، حيث تعجز كثير من الأسر عن توفير المستلزمات التعليمية الأساسية أو الأجهزة التكنولوجية لأبنائها. وعلى الصعيد النفسي، يرزح الطلبة تحت وطأة الصدمات الناتجة عن فقدان الأحبة والتهجير والمشاهد العنيفة، ما يضعف قدرتهم على التركيز والتعلّم. كما يعاني المعلمون من ظروف مشابهة، مما يحد من قدرتهم على تقديم الدعم الكافي. هذه العوامل مجتمعة تجعل من التعليم في غزة مسارًا محفوفًا بالصعوبات، يحتاج إلى تدخلات شاملة ومتكاملة لضمان استمراره.

تعيش غزة حالة من عدم الأمان الشديد، إذ الخوف من القصف والذعر من الانهيارات المفاجئة للمباني جعل حضور المدرسة أو أي نشاط تعليمي مغامرة يومية. وقد وثّقت منظمات مثل اليونيسف في تقاريرها أن أكثر من 95% من مدارس غزة إما متضررة جزئيًا أو مدمرة بالكامل. هذا الواقع يُلقي بتبعات رهيبة على الطلبة الذين يفقدون الثقة في سلامة البيئات التعليمية، ما يثبط تردّدهم على المدارس حتى إن كانت مفتوحة.

أما من حيث النقص في المعلمين والكوادر التعليمية، فالإحصائيات تشير إلى أن الأوضاع مأساوية: وزارة التربية والتعليم  ذكرت أن 914 من المعلمين والإداريين تم استشهادهم، و4,363 مصابون من المعلمين والإداريين منذ بداية العدوان على غزة والضفة الغربية. هؤلاء الذين يبقون غالبًا يعملون في ظروف غير طبيعية، بدون موارد تعليمية كافية، في مبانٍ مدمرة أو غير مجهزة، مما يضع عبئًا مهنيًا ونفسيًا كبيرًا عليهم.

النقص في الموارد المادية والمستلزمات التعليمية لا يقل شدّة؛ فبالإضافة إلى المدارس المتضرّرة، يعاني الطلبة من نقص الكتب والوسائل التعليمية الأساسية مثل الأقلام والورق والوسائل البصرية، كما أن الانقطاع المتكرر للكهرباء والماء يؤثر حتى على أبسط أنشطة التعلم مثل القراءة والمراجعة المنزلية.

الافتقار إلى استقرار روتيني هو تحدٍّ مركزي: مع النزوح المتكرر وفقدان المنازل والعيش في ملاجئ، يضطر الأطفال للتنقل، والأسر تواجه أعباء يومية من تأمين الطعام والماء، مما يقلّل من القدرة على الالتزام بنظام دراسي منتظم. إحصائيًا، تمّ إغلاق المدارس لفترات متتابعة، ما أدى إلى أن ما يزيد عن 625,000 طالبًا لا يتلقّون تعليمًا رسميًا لأكثر من ستة أشهر في بعض التقاريرمنظمة اليونيسيف ووزارة التعليم الفلسطينية.

من الناحية النفسية والمعرفية، الخسائر البشرية – الطلاب والاستشهاد والجرحى – تؤدّي إلى صدمات عميقة، تؤثر على الانتباه والذاكرة والتحصيل الأكاديمي. فعلى سبيل المثال،وفقاً لتقرير مركز الميزان لحقوق الإنسان هناك ما يقارب 13,419 طالبًا قتلوا و21,653 جُرحوا منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى منتصف أبريل 2025.

أخيرًا، التأثير طويل الأجل على الهوية والمعرفة الثقافية بات واضحًا. استهداف المدارس والجامعات، تدمير الكتب والتراث العلمي، تعطيل البحث العلمي، كلها أمور تهدّد استمرارية التنشئة الثقافية والمفاهيم التعليمية التي تغذّي الانتماء. مصطلحات مثل “educide” تُستخدم في التقارير الحقوقية لوصف هذا التدمير المنهجي لنظام التعليم، باعتباره عملًا لا يُفرّق بين المؤسسات المادية والمضمون المعرفي والهوياتي.

بناءً على واقع التعليم في غزة بعد عامين من الإبادة التعليمية، يمكنني أن ألخّص التوصيات فيما يلي:

1.    ضرورة حماية المدارس والمؤسسات التعليمية من الهجمات كحق غير قابل للتفاوض، وفق القوانين الدولية.

2.    توسيع برامج التعليم الطارئ والتعليم في السياقات النزوحية، مع ضمان دمج الدعم النفسي والاجتماعي.

3.    تأمين البنى التحتية الأساسية (كهرباء، إنترنت، ماء) لأغراض التعليم، خصوصًا التعليم عن بعد، وتوفير بدائل حين تنقطع هذه الخدمات.

4.    دعم المعلمين تدريبياً ومادياً نفسياً لتأهيلهم للتعامل مع التعلم في الأزمات.

5.    ضمان الاستدامة في إعادة بناء البنية التعليمية بعد انتهاء الأزمات، وإعادة هيكلة المناهج بحيث تأخذ في الحسبان التغيرات التي عاشها الأطفال والمعاناة النفسية التي مرّوا بها.

6.    مراقبة وتنظيم المساعدات التعليمية الدولية لضمان وصولها الفعّال إلى المناطق الأكثر تضرّراً دون تأخيرات أو عوائق.

في الختام، يتعلّم أطفال غزة زمن الحرب والإبادة في ظلّ واقع قاسٍ ومأساوي، حيث يُفقدون سنوات من التعليم، ويواجهون تدميراً للبنى التحتية، ونقصاً في الأمن المعنوي والمادي، وتأثّراً نفسياً عميقاً يؤثر على قدراتهم المعرفية. ومع ذلك، فإن هناك قصصًا من الصمود والمقاومة: أطفال ومعلمون، منظمات ومجتمعات تبذل ما في وسعها لتوفير فرص التعلم ولو بالحدّ الأدنى، عبر التعلم المؤقت، والدعم النفسي، والاستعانة بما تبقى من وسائط التعليم الرقمي. من الناحية الأكاديمية، من المهم أن نفهم أن التعلم لا يتوقف فقط على التعليم الرسمي، بل على كيف يُعاد بناء الروتين، الأمل، الأمان النفسي، ووجود الرعاة (الأهل، المعلمين، المجتمع) الذين يؤمنون بأن التعليم حقّ لا يمكن التخلي عنه حتى في أوقات الظلم والحرب.

 يتعلّم أطفال غزة المعرفة في زمن الحرب، لكنّه تعلٌّم محفوف بالمعيقات والمخاطر، مرهون بصمود البنى التحتية، والاستقرار النفسي، ودعم المجتمع الدولي والمحلي، وحماية مبدأ التعليم كحقّ أساسي إنساني. العمل الأكاديمي يجب أن يستمر في توثيق هذا الواقع، في المقام الأول لتوفير فهم علمي يُمكّن من اقتراح حلول قابلة للتطبيق، ويضمن ألا يُحرم جيل كامل من حقّه في أن ينهض، بالتعلم، بالأمل، وبالكرامة.

شاركها.