عــشــائــر عــشــائــر..الكاتب: عبد الغني سلامة
2025 Aug,13
قبل مدة وجيزة هاجمت بعض العشائر السورية محافظة السويداء، أو تم استخدامها في الهجوم.. لا فرق، إثر ذلك هبت عشائر من العراق لنجدة عشائر سورية، واستنفرت على الحدود، بعض عشائر الأردن أعلنت على لسان أحدهم النفير والغضب نصرة لعشائر سورية والعراق.
من الذي أطلق العشائر دفعة واحدة؟ ولماذا كل هذه العشائر لم تفعل شيئاً لغزة؟
من الصعب أن أصدق أن العشائر استفاقت من تلقاء نفسها، وأنها وضعت ثقلها وقوتها لصالح الوطن.. فالأمة كلها تعيش حالة من التخبط والارتباك والذهول، وتمر في حالة هزيمة وانكسار، تحت وطأة الضربات الإسرائيلية والأميركية، ومن غير المحتمل أن يأتي الرد الواعي والناضج والحكيم لمواجهة أزمة مستعصية وضد المنظومة الإمبريالية العالمية من قبل تشكيلات اجتماعية تنتمي لمرحلة ما قبل الدولة، وما قبل الحداثة.. إلا إذا أردنا إقناع أنفسنا بقصة النخوة والفزعة، على طريقة سكب القهوة ورفض شربها!
الأسئلة المطروحة: هل تريد العشائر حقاً حلاً وطنياً عادلاً يضمن حقوق الجميع؟ هل يهمها سيادة القانون والنظام؟ هل هي مهتمة بالفعل ببسط الدولة سيادتها على كامل جغرافيا الوطن؟
ثمة فرق جوهري بين الإجابة الاستعراضية الإنشائية التي ستقول كلاماً معسولاً وتقدم إجابات نموذجية عن كل سؤال، وبين الدوافع الحقيقية التي تفضحها الممارسات وطريقة التفكير ومنهجية التحرك.. بل إن الإجابات نفسها ستحمل المفردات العشائرية والقبلية ومصطلحات زمن الفزعات والغزوات والثارات، وكل ما تحمله اللغة الذكورية العصابية.
ما يجري حقيقةً أن الأنظمة تستعين بالعشائر والعشائر تستقوي على الدولة.. في لعبة باتت مكشوفة. وهذه اللعبة لا تقتصر على الأنظمة العربية؛ إسرائيل تسعى لاستخدام العشائر بنفس الآلية.. ومن قبلها بريطانيا حين استعمرت فلسطين، وعملت على توظيف العشائر لوأد الثورة الشعبية.
في مطلع الثمانينيات استثمرت إسرائيل في العقلية العشائرية، وفهمت الثقافة الريفية السائدة وأنشأت «روابط القرى»، وكان الهدف منها إيجاد بديل عن منظمة التحرير، وإفراغ النضال الفلسطيني من محتواه السياسي وجعله في صورة خلاف على إدارة شؤون السكان.. المخطط فشل بسبب الوعي الوطني لكن إسرائيل لم تتوقف، لديها مخطط جاهز مركون على الرف وبانتظار اللحظة المناسبة لتنفيذه، وهو مخطط الإمارات السبع، أي تقسيم الضفة الغربية إلى سبع إمارات وتسليم العشائر شؤون إدارة السكان مع تقديم إغراءات اقتصادية بهدف تفتيت الكيانية الفلسطينية وإفراغ حق تقرير المصير من مضمونه السياسي.. وقبل فترة صرح شخص أنه ينوي إعلان استقلال محافظة الخليل، وعقد اتفاقية سلام مع إسرائيل.. ولحسن الحظ تبرأت منه عشيرته.. لكنه ليس مجرد بالون اختبار، بقدر ما هو جرس إنذار لما هو مخبأ ومعد لتصفية القضية الفلسطينية.
في غزة التي تتعرض لحملة إبادة وتطهير عرقي وتهجير قسري اشتغلت إسرائيل على موضوع العشائر.. دعمت أفراداً من عشيرة معينة وسلحت عناصرها فيما يُعرف بتنظيم أبو شباب، وهذا أيضاً تبرأت منه عشيرته، لكنه ظل قوة خطرة وتهدد مستقبل غزة، فمهمة هذا التنظيم ليست فقط سرقة المساعدات ودفع «الخاوات» وإثارة القلاقل وتهديد السلم الأهلي؛ لديه مهمة وظيفية أخطر إن نجح في إثبات حضوره وقوته سيكون بديلاً مناسباً لما يُعرف باليوم التالي في غزة.
وأيضاً، العديد من عصابات النهب والسلب وسرقة المساعدات التي ظهرت منذ بداية العدوان، وزاد نشاطها مع اشتداد المجاعة.. هذه العصابات تستقوي بعائلاتها وعشائرها .. بالمثل ظاهرة السماسرة وتجار الحرب الذين يستغلون الشعب أبشع استغلال هؤلاء لم يكن ممكناً لهم القيام بأدوارهم المشبوهة والخطرة لولا حماية عشائرية لهم.
كانت العشائرية من أبرز أسباب هزيمة الحركة الوطنية قبل النكبة.
وبعد احتلال الضفة سعى الاحتلال للتحالف مع بعض مخاتير وأعيان العشائر، وكان كبار الجواسيس يستقوون بقوة عشيرتهم. إلى أن جاءت الانتفاضة الأولى وأفشلت هذا المشروع. بكلمات أُخرى: العقلية العشائرية أخطر ما يهدد الكيانية الفلسطينية.
العشائرية تنظيم إرثي، ورابطة تقوم على الدم، وقد تخلصت الدول الحديثة من العشائرية منذ زمن بعيد، لكن المنطقة العربية احتفظت بها، لأسباب سيسيولوجية واقتصادية، ولأنها شكلت ركيزة لتثبيت النظم الحاكمة.
ومع ذلك، العشائر بحد ذاتها ليست المشكلة؛ فالعشائر موجودة من أقدم الأزمنة، وستظل موجودة.. وهي بصورتها الإيجابية رابطة اجتماعية مهمة، ولا أحد يطالب بتفكيك العشيرة طالما أنها في إطار الدولة، وتحت مظلة القانون، ولا تشكل تهديداً للوحدة الوطنية، أو بديلاً عن الهوية الجامعة.
مع أن العشائرية استفادت من الحداثة شكلياً، لكنها بقيت مرحلة متخلفة بمفهوم التطور الاجتماعي. فالعشائرية هي حاضنة التعصب القبلي، وبيئة التطرف الديني، وعصاب العقلية الذكورية، وهي العائق أمام تطور المجتمع نحو المدينية ونحو ترسيخ مفهوم الدولة وسيادة القانون.
قويت العشائرية بعد أن ضعفت الدولة، وضعفت الأحزاب السياسية، وترهلت الفصائل الوطنية، وتراجع اليسار، وخبا صوت المنظمات المدنية.. ولم تعد هناك قوة مؤثرة ومحركة للجماهير، فخلت الساحة للعشائر، التي تغولت على المجتمع والدولة.. لكن خطورة العشائرية لا تتوقف عند البعد الاجتماعي؛ أي بكبح التطور الاجتماعي، وإعاقة التقدم نحو التمدن.. خطورتها أنها تظل قوة خفية كامنة تهدد النسيج الاجتماعي والسلم الأهلي، وقد أظهرت ذلك في مرات عديدة، وبأشكال مخيفة.
توازي بخطورتها ما فعلته الطائفية في لبنان وسورية والعراق.. فهي السياق الجاهز للاستخدام من قبل الخارج، كثورة مضادة مستعدة لهدم الوطن.
حالياً صارت العشائر قوات مسلحة.. والسؤال الخطير: لمن توجه أسلحتها؟ ولأي معركة يستعدون؟.