بعد عامين تماماً من هذه المقتلة التي أحرقت الأخضر واليابس في قطاع غزة تشير الإحصائيات المحلية إلى وجود أكثر من ألف مركز لإيواء اللاجئين والنازحين ممتدة على شاطئ البحر، بدءاً من شاطئ بحر مدينة دير البلح، وهذا الرقم المهول يخبر العالم كم طالت الحرب وكم تجبّر الغزاة وأوغلوا في حقدهم وفي تنفيذ مخططهم، في عملية التطهير العرقي التي من أجلها استمرت الحرب كل هذه المدة.
إذا كنا على شفا صفقة أو اتفاق لوقف الحرب والبدء في مفاوضات فعالة من أجل أن يتوقف الموت أولاً، فهذه خطوة متأخرة وان كان لا بد منها وهي خطوة أيضاً متأخرة جداً، وكان يمكن القبول بمثلها بالنسبة للشروط والحفاظ على آلاف الأرواح، لكن ذلك لم يحدث لأسباب كثيرة لا يمكن حصرها، ولأن الإتيان على بعضها سيكون موجعاً، لكن المهم ان يتوقف شلال الدم وان يكون هناك جدول لكي ينسحب الجيش من المناطق التي سيطر عليها، وحيث سيطر فعلياً على اكثر من 85 من مساحة مدينة غزة، ونأمل أن يكون الانسحاب من عمق المدينة لكي يسمح لأهلها المتبقين بالحركة، وحيث يبلغ عدد السكان المتبقين نحو 300 ألف إنسان يعيشون ظروفاً سيئة للغاية، وسط تعتيم إعلامي بسبب اغتيال الصحافيين وهجرة ونزوح اكثرهم إلى وسط وجنوب القطاع، وكذلك شحّ المواد الغذائية وعدم توفر الرعاية الطبية للمصابين والجرحى والمرضى بسبب نزوح الكوادر الطبية، وسط تهديدات بإخلاء المراكز والمشافي الصغيرة، ما أدى إلى حصار غير معلن لهذا العدد من البشر ودون نقل لمعاناتهم.
لا يمكن الحديث عن صمود من تبقى من أهل غزة، فهم في معظمهم فقراء بائسون ومرضى وعجزة، لا يملكون المال ولا القوة للحركة صوب مراكز إيواء تدعي إسرائيل عبر أبواقها الإعلامية أنها مناطق إنسانية آمنة، لذلك فالمهم في هذه الخطوة هو الحديث عن هؤلاء، والسعي بأسرع وقت لفك الحصار عنهم من خلال انسحاب وتراجع قوات الجيش البرية والغطاء الجوي من مساحة المدينة الحزينة التي هُجر ثلثا سكانها.
إذا كانت الأصوات تتعالى عن شروط مجحفة لما يدور الحديث عنه كخطة ترامب، فالإنسان الغزي لا يهمه حالياً سوى ما عبر عنه المثل الشعبي: اطعمني اليوم واقتلني غداً، لأن الأوضاع التي يعيشها قد أدت إلى نفاد جعبته من كل شيء، سواء المفردات التي كان يرددها او حتى ماء الحياة في عينيه وجسمه، وبعد عامين من الإنهاك المضني المستمر بلا لحظة توقف او التقاط للأنفاس، ما بين القصف في نفس المكان او المطالبة بالانتقال والنزوح، والبدء في تأسيس حياة بسيطة بدائية لا تشبه أي وجه من وجوه الحياة على الأرض.
المطلوب أولاً ولكل من يسعى للوساطة في هذه الاتفاقية التي ينتظرها الغزي على نار الجمر، أن يتم إنقاذ الإنسان من الموت، وان يتوقف شلال الدم وان يمنح الغزي فرصة لكي ينظر حوله ولا نقول ان يلتفت إلى الوراء، لأن الماضي القريب الذي مر به خلال عامين لا يعني سوى الموت والفقد والضياع والتشرد والبؤس والعوَز، لذلك فالمواطن الغزي يريد ان يتلفت حوله ليتلقط يد من تبقى من عائلته، ولكي يضع خطوته الأولى لكي يرتاح ولو في ظل خيمة، بعيداً عن الموت الذي يلاحقه بكل الصور والوجوه، وان كنا نعرف ان بقاء الغزي في خيمة سيطول، لكنه راضٍ وعلى مضض، فالشرط الأول هو ان يتوقف الموت الذي يلاحقه ويلاحق من تبقى من عائلته وأحبته.
لا يمكن ان نتحدث ونحن في قلب المحرقة، وحيث تحولت غزة إلى مدينة أطلال وأشباح عن شروط مجحفة، لكن المطلوب حالاً هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأن ما كان يمكن إنقاذه قبل عام او قبل نصف عام قد أصبح تحت الأنقاض او أصبح عظاماً نخرة تحت التراب، ولم يبق للأحياء سوى الدموع والحسرات.

شاركها.