عطل السابع من أكتوبر مؤقتاً مسار التآكل الداخلي في إسرائيل، حيث كانت إسرائيل قبل ولعشرة أشهر تتظاهر كل سبت في الشوارع تعبيراً عن الفشل في إدارة التنوع والذي كان عمود خيمة تجمعات يهودية تم تهجيرها من بلاد عديدة بقيم وثقافات متباعدة تمكنت بنغوريونية أشكنازية أشرفت على التأسيس من احتوائها قبل أن تنفجر مطلع 2023.
التعطيل تم مؤقتاً لأن التناقض الداخلي أكبر من التغلب عليه في دولة أسسها علمانيو أوروبا الحديثة قبل أن يصطدم المساران المتعاكسان تماماً.
من يراقب التفاعلات داخل دولة إسرائيل يدرك أنها تسير بخط بياني هابط ثابت نحو الأفول، هذا الخط الذي يختفي حالياً خلف دخان الحرب لكن الإشارة شديدة الوضوح التي تصدر من المتدينين عن استعدادهم لهدم الحكومة والبرلمان والنظام القضائي والمجتمع بسبب محاولة شركائهم دمجهم في المجتمع وتجنيدهم للجيش. وبات واضحاً أن المجتمع الإسرائيلي بسبب الحرب فتح وعيه على تلك الفئة المتهربة من الخدمة ولم يعد يقبل سلوكها.
وإذا كانت إسرائيل تذهب لانتخابات فيما لو أكملت الحكومة ولايتها بعد خمسة عشر شهراً، وإن حدث التغيير بانتقال الحكومة للمعارضة التي تتوعد المتدينين وأشدهم تطرفاً أفيغدور ليبرمان رئيس حزب إسرائيل بيتنا الذي غادر الحكومة خريف 2018 بسبب عدم تجنيد المتدينين وينتظر اللحظة التي يكون جزءا من حكومة مضادة لتصفية الحساب، وحينها لنا أن نتصور كيف يندفع المتدينون إلى الشوارع احتجاجاً وتحطيماً وعنفاً.
فالعقل الديني في كل المجتمعات لا يقبل التشكيك برؤيته «المقدسة» للعالم وهكذا كانت مأساة مجتمعات أصبح للقوى الدينية دور وثقل وحضور.
وتحت غبار الحرب أيضاً يصوت واحد وسبعون عضو كنيست على ضم الضفة الغربية كاستكمال لجملة مشاريع لم يلتقط ذلك الكنيست أنفاسه في استثمار الوقت لضم الضفة الغربية.
ومن الغريب أن حكومة تؤدي القسم في الثامن والعشرين من كانون الثاني كان الكنيست الراعي لها يقدم مشاريع الضم منتصف الشهر نفسه قبل أن تتشكل لأن بتسلئيل سموتريتش يستعجل التعبير عن هذا الجنون فيما كان زميله يوسي داغان رئيس مجلس المستوطنات يوقع وزراء وأعضاء كنيست على الضم قبل التصويت وللمصادفة نفس العدد، أما كيف يتم ذلك ؟ لأن هناك مناخات في إسرائيل تمت صناعتها نحو شطب الملف الفلسطيني مستغلين لحظة تاريخية توفرت.
جاء ترامب ليزيد من بلة طين السياسة وطين العرب وطين الفلسطينيين، ويلتقي الجنون الإسرائيلي بالجنون الأميركي والخفة المسلحة ليحتفل أنصار اليمين الذي تحول إلى تيار مركزي داخل مجتمع إسرائيل بانتخاب ترامب معلنين أن العام 2025 سيكون عام الضم للضفة الغربية، وأن الضم مع ترامب أصبح أسهل، وكان متوقعاً ألا يمرر الجنون الإسرائيلي هذا العام وخصوصاً أن فائض القوة الذي سجل انتصاره على المحور الوحيد الممانع لإسرائيل في المنطقة سيتحول إلى فائض قوة نفسية وسياسية تقتطع ما تريد بلا حساب من غزة للضفة للبنان لسورية التي أصبح جيش إسرائيل على بعد 15 كيلومتراً من دمشق.
لم يشبع وحش التوسع الإسرائيلي بعد فهو يتمدد بما لا تستطيع معدته هضم هذا التوسع، وخصوصاً إذا كانت المعدة وباقي أجهزته تصاب بسرطان الأزمة الداخلية ….إسرائيل قلعة مدججة بكل عناصر القوة وقبل أن تشارف على الهزيمة ستطلق قنابلها النووية كما يفكر بوتين وكل الأقوياء وكما فعلت القوة الأميركية في مطار بغداد حين استعصى عليها كما أم قصر لتستخدم قنابل غير تقليدية تذيب البشر كما قال لي الصديق المرحوم محمد أبو عبيد الضابط الفلسطيني في الجيش العراقي الذي كان قريباً من معركة المطار وشاهد عيانها.
ومن اعتقد غير ذلك كان يجب عزله وعدم السماح له بالعمل السياسي لأنه يغامر بنفسه وحزبه وشعبه، لكن هذه القلعة كما يقولون لا تقتحم إلا من الداخل وهذا هو مقتل إسرائيل التي تتجه لتكون دولة عالمثالثية مثقلة بنزاعاتها وهجرة فئات لم تعد تخضع لحماية التعدد والقانون.
سنكون أمام انفجارات داخلية في إسرائيل، وقد يأخذ الأمر مزيداً من الوقت لأن المجتمعات تتحول ببطء وإن كان الأمر وصل ذروته في السنوات الأخيرة فقد انتهت الضوابط التي تمت هندستها بعناية فائقة لتكون إسرائيل دولة علمانية حضارية قادرة على استيعاب مكوناتها.
وليس من المغامرة القول إن نذر انفراط العقد الاجتماعي قد بدأت تطل برأسها دستورياً واجتماعياً وحكومياً، والمفارقة أن دولة تتآكل من الداخل تعاند التاريخ وتتوسع في الخارج ما يزيد كلفة الأزمة الداخلية لتبدو كما الثعبان الذي يبتلع الثور بقرونه الجارحة …. هكذا يحدث للإمبراطوريات عندما تفقد التوازن بين قوة الشعب وحدود السلاح وتراخي الجغرافيا وتقلص العقل.
أن تعلن إسرائيل ضمها للضفة الغربية لنهر الأردن موطن الفلسطينيين وأرض تطور حضارتهم، وأن تطلق عليها يهودا والسامرة كما يفعل السفير الأميركي الأشد ابتذالاً في تاريخ السفراء يعني الرغبة بإسدال الستار على القضية الفلسطينية للأبد. والحقيقة أن الفلسطينيين بمغامراتهم وبسوء إدارتهم مهدوا لهذا والانهيار وفقدان المناعة الوطنية..!