موقع مقالة نت
اهم المقالات التي تهم القارئ العربي

غزة: حين يستهدف الاحتلال ذاكرة التاريخ ويسرق إرثها

0 0

في كل مدينة، هناك شواهد تحفظ ذاكرتها، هناك حكايات محفورة في الجدران، ونقوش تروي سير الأجيال. وفي غزة، تحولت معالم التاريخ إلى أنقاض، كأنها لم تكن يومًا. 

لا تقتصر الحرب على استهداف الأرواح، بل تمتد لتطال الحجر والتاريخ، وكأن الاحتلال يحاول طمس كل ما يشهد على وجود شعب متجذر في هذه الأرض. 

مدير البلدة القديمة بغزة حمودة الدهدار كشف لـ”وفا”، أن 316 مبنى أثريًا تضررت بفعل العدوان، تتركز 70% منها في مدينة غزة وحدها. 

ويضيف: “كل المعالم الأثرية المهمة تضررت، بعضها دُمر كليًا، والبعض الآخر جزئيًا، وعلى رأسها المسجد العمري الكبير، وحمام السمرة، وقصر الباشا، وجامع القزمري، ومسجد ابن عثمان، وقصر السقا، إضافة إلى عشرات المساجد والأسواق والمنازل التاريخية”. 

المسجد العمري الكبير.. منارة إسلامية في قلب غزة

حيث تتشابك الحجارة العتيقة مع التاريخ، يقف المسجد العمري الكبير شامخًا، لكنه اليوم جريح بفعل الحرب. 

لم يكن المسجد في بدايته مسجدًا، بل كان معبدًا وثنيًا قبل أن يتحول إلى كنيسة، ثم إلى مسجد بعد الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي. خضع المسجد لعدة عمليات توسعة وترميم، خاصة خلال العصر الأيوبي والمملوكي، ليصبح أعجوبة معمارية تمتزج فيها الأقواس العالية بالنقوش الإسلامية العريقة. لكن العدوان الأخير لم يترك له مجالًا للصمود، فقد أصيب بأضرار جسيمة، ما يستدعي جهودًا مكثفة لإعادته إلى سابق عهده. 

جامع القزمري (الظفر دمري) ومسجد ابن عثمان .. آثار إسلامية دُمرت بالكامل

يعد جامع القزمري أحد أقدم المساجد الأثرية في غزة، ويعود تاريخه إلى العصر المملوكي، وهو واحد من المساجد التي تمتاز بتصميم معماري فريد يروي تاريخ العمارة الإسلامية في فلسطين. تعرض المسجد لأضرار بالغة نتيجة القصف، ما أدى إلى انهيار أجزاء منه، فضلًا عن سرقة بعض محتوياته الأثرية على يد قوات الاحتلال.

أما مسجد ابن عثمان، الذي كان أحد رموز الطراز العثماني في غزة، فقد دُمر بالكامل، ولم يبقَ منه سوى الحجارة المتناثرة وسط الركام، حيث كان يشهد على حقبة تاريخية مهمة تعكس امتداد الحضارة الإسلامية في فلسطين. 

قصر الباشا وقصر السقا.. معالم تراثية تعرضت لأضرار بالغة 

في أحد أركان البلدة القديمة، حيث مرّ السلاطين والولاة، يقف قصر الباشا شاهدًا على العصور التي توالت على غزة. بني القصر في العصر المملوكي، تحديدًا في القرن الثالث عشر الميلادي، ليكون مقرًا للحكام، ثم استخدم لاحقًا خلال الحقبة العثمانية كمركز إداري. 

لكن القصر، الذي صمد في وجه القرون، لم يصمد أمام القصف الأخير، إذ تعرض لأضرار بالغة أدت إلى انهيار أجزاء من جدرانه وسقفه. وحرصًا على إنقاذ ما تبقى، بدأت فرق مركز حفظ التراث بيت لحم منذ حزيران/يونيو 2024 عمليات توثيق وترميم، في محاولة للحفاظ على ما تبقى من معالمه الفريدة. 

أما قصر السقا، الذي كان يعد أحد أبرز القصور الأثرية في غزة، فقد تعرض لدمار شامل، مما أدى إلى فقدان أحد أبرز معالم العمارة المملوكية التي كانت قائمة حتى وقت قريب. 

حمام السمرة.. إرث عثماني في خطر 

في الأزقة العتيقة، كان حمام السمرة ملاذًا لسكان غزة الباحثين عن الدفء والاسترخاء، لكنه اليوم غارق في ركام الدمار. 

يعود هذا الحمام التاريخي إلى العصر العثماني في القرن الرابع عشر الميلادي، وكان واحدًا من آخر الحمامات التركية التي لا تزال تعمل في فلسطين. 

لكن القصف الأخير ألحق به أضرارًا جسيمة، ما يجعل الحاجة إلى ترميمه أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. 

كنيسة القديس برفيريوس

إرث مسيحي أصيل وواحدة من أقدم الكنائس في العالم، يعود تاريخ بنائها إلى القرن الخامس الميلادي. تعرضت الكنيسة لأضرار جسيمة وتدمير المبنى الإداريّ بالكامل، وتحطم العديد من معالمها الداخلية التي كانت تحوي أيقونات ومخطوطات دينية نادرة. 

سرقة الآثار.. جريمة أخرى بحق التاريخ

 لم يقتصر العدوان على تدمير المواقع الأثرية، بل تعداه إلى نهب وسرقة مقتنيات أثرية ثمينة. 

مواطنون أكدوا أن جنود الاحتلال سرقوا قطعا أثرية من قصر الباشا، وكنيسة جباليا البيزنطية، في محاولة لطمس الهوية الفلسطينية وسرقة تاريخها. 

جهود محلية ودولية لإنقاذ التراث في مواجهة هذا الدمار

تعمل عدة جهات محلية ودولية على ترميم ما يمكن إنقاذه من هذه المعالم. ومن أبرز هذه المؤسسات مركز حفظ التراث ومؤسسة رواق، اللتين تعملان على مشاريع داخل البلدة القديمة لمدينة غزة، تشمل إنقاذ المسجد العمري، والمسجد المغربي، وقصر الباشا، إلى جانب سوق القيصرية وبعض المباني التاريخية الأخرى. 

يقول الدهدار: “نعمل ضمن فريقين متخصصين، الأول يركز على فرز الأحجار الأثرية وحفظها، بينما يعمل الفريق الآخر على توثيق القطع الأثرية وحفظها، لضمان عدم فقدان أي جزء من هذا التراث العريق”.

ما حدث في غزة، وفق الدهدار، ليس مجرد دمار عشوائي، بل استهداف ممنهج لمعالم تحمل الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني، فتدمير هذه المواقع لا يعني فقط فقدان حجارة أو مبانٍ، بل يعني محو هوية، وطمس ماضٍ يمتد لآلاف السنين. 

بين الأنقاض، هناك حجر ما زال يحمل نقشًا قديمًا، وهناك جدار ما زال يحتفظ ببقايا لونٍ زال مع الزمن، وهناك نافذة تنتظر أن تعود لتطل على غزة كما كانت، مدينة تحفظ التاريخ وتحميه.

اضف تعليق