غزة… والخطاب التالي للحرب ..جمال خالد الفاضي
2025 Oct,12
في زمنٍ تتكاثر فيه الركام، لم يعد السؤال كيف نعيد بناء الحجر، بل كيف نعيد بناء الوعي. هذا المقال دعوة لتفكيك الخطاب الذي جعل الألم قاعدة، ولإعادة الاعتبار للإنسان قبل الشعارات.
انتهت حرب الإبادة، وانتهت معها المرحلة الأولى من الجحيم. لكن ماذا بعد؟ ماذا بعد هذا الدمار الذي ضرب كل مدن قطاع غزة، وجعلها أطلالًا من رماد؟ هل هنا توقّف التاريخ؟ وهل هنا انكسرت الإنسانية وسقطت عن عرشها، حتى صار الإنسان وحشًا لا يرى في العالم سوى نفسه؟
مشاهد الخراب التي تناقلتها وسائل الاعلام أكبر من أن تُختصر في الكلمات: لا بنية تحتية، ولا بنية صحية، ولا تعليمية، ولا اجتماعية. انهيار شامل للحياة… للأمل… للغد. مدنٌ تحوّلت إلى ذاكرة، ووجوهٌ بلا ملامح تبحث في الركام عن معنى الوجود. ولكن لم تكن الحكاية تقف عند حدود الدمار، لربما صمتنا واحتفظنا بوجعنا بين ضلوعنا. غير أن المأساة لم تنتهِ بعد، فثمة فصول جديدة تُكتب من الألم.
فصول عن بردٍ يقترب بلا مأوى، وعن قيمٍ تهاوت، وعن حركةٍ وفصائل ادّعت حرصها على الوطن والمواطن، بينما كان همّها الأول هو بقاؤها ووجودها. الناس يبحثون عن لقمة، عن بيت، عن دفء، وهي تعود لتذكّرهم بأنها ما زالت هنا، تُصدر بياناتها وتعيد حضورها، وكأن شيئًا لم يكن.
اليوم، يختلط الأمل بالألم، ويصير القهر لغةً يوميةً للناجين. أيام صعبة وقاسية تنتظرهم، فلا أحد يبدو راغبًا في إنهاء هذا الشقاء، وكأن الألم نفسه صار وقودًا لبقاء البعض واستمرارهم. ومع كل ذلك، يعود خطابٌ واحد، كأنه لم يُحمل مسؤولية ما جرى، خطابُ النصر، خطابُ الصمود الذي يخلط بين البطولة الحقيقية والتمسّك بالسلطة مهما كان الثمن.
لنكن صريحين: غزة ليست مشهداً للموت المحكوم عليه، ولا هي معجونٌ يُشكّل ليتوافق مع روايةٍ واحدة. شعبنا يحبّ الحياة، يقدّرها، ويشتهيها لأبنائه كما يشتهيها كل شعبٍ آخر. ما حدث ليس امتحاناً لمدى صبرنا فحسب، بل اختبارٌ لمدى القدرة على تحويل الألم إلى بناء. استمرار الخطاب نفسه دون مراجعةٍ حقيقية للمسؤوليات والخيارات، هو بمثابة دفنٍ للمستقبل. فهل يمكننا أن نرفع الأنقاض ونبني بيوتاً، بينما تُنحت في صدور شعبنا رواياتٌ تبرّر استمرار الحصار والقهر باسم "المقاومة" فقط؟ لا.
ولنتذكر معاً، أنّ رفع أنقاض البيوت وحده لن يعيد للناس كرامتهم أو أملهم. إذا بقي قادة حماس وجمهورها يحتفون بلغة الانتصار مع استمرار المعاناة اليومية، فإن ذلك سيكرّس شعوراً بالاغتراب لدى أجيال قد ترى في الصمود خيارًا أفقيًا بلا مدخل عملي لبناء حياة آمنة ومستقرة.
ولذلك، أدعو إلى اعتبار أن تجريف ورفع أنقاض الخطابات، ( كما كان قد اشار إلى ذلك الصحفي المشهور نديم اقطيش) يجب ان يكون أسبق من تجريف الأنقاض الحجرية، لأن تغيير الكلام هو بداية لتغيير السياسات، وهو ما يحتاجه شعبنا أكثر من أي وقتٍ مضى.
على قادة أي حركة أو فصيل أن يضعوا مصلحة الناس فوق كلّ اعتبارٍ آخر. ليس المقصود هنا محاسبة خالصة بل دعوة إلى مسؤولية أخلاقية عملية: الخطاب الذي يروّج للاستعلاء أو يستثمر في جراح الناس ليكسب مشروعية ليس خطاب قيادة حقيقية، بل استنزافٌ لرهانات الشعب ومستقبله. المطلوب خطابٌ يعتذر عن الأخطاء، ويهمس بالأمل بوصفه التزاماً لا مجرد شعار.
إنّ إعادة إعمار غزة ليست فقط رفع أنقاضٍ، بل إعادة بناء سِرديةٍ تضع الإنسان في مركزها. عندما يتخلّى القادة عن خطابٍ يجعل من الألم مادةً سياسياً بحتة، سيبدأ شعبنا وشبابه يرى أمامه مستقبلًا قابلاً للتصديق والعمل. فليأخذ كل ذي مسؤولية حصته، وليرحل من لا يستطيع أن يقود بهذه الرؤية. ليس شعاراً بلا معنى أن تقولوا: خذوا حصتكم وارحلوا، فهذه العبارة قد تكون بداية لصفحةٍ جديدة تُكتب فيها حياة شعبٍ حيّ يعشق الحياة ويستحقها.