تتوالى الأخبار عن إمعان حكومة الحرب الإسرائيلية في مخططها الاحتلالي للسيطرة المتدرجة على قطاع غزة، عبر عمليات إخلاء متتابعة تبدأ من مدينة غزة وتمتد لمناطق أخرى، بما يعني ارتكاب مزيد من جرائم الإبادة الجماعية المتكاملة الأركان، وفي المقابل، تواصل قوى دولية مؤثرة ترك العنان لهذه الحكومة لتفعل ما تشاء، فيما يكتفي بعضهم بإقرار حجم الجريمة أو إصدار بيانات إدانة لا تغيّر من الواقع شيئاً، بينما تستمر الجرائم وتتسع وتزداد وتيرتها.
ويأتي ذلك في وقت برزت فيه، خلال الأسابيع الأخيرة، مؤشرات على تصدّع محدود في جدار الصمت الدولي، تمثلت في إعلان بعض الدول الأوروبية عن نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في خطوة تعكس تحولًا جزئيًا في المزاج السياسي الغربي؛ غير أن هذه المؤشرات، على أهميتها الرمزية، لا تحجب حقيقة أن الموقف الدولي العام ما يزال أسيرًا لـ”فقه الحياد” المريب، الذي يساوي بين الجلاد والضحية ويغض الطرف عن جريمة الإبادة وهي تُرتكب على مرأى العالم ومسمعه.
أمام هذا المشهد الدموي والصمت المريب، تبرز ظاهرة تستحق التوقف عندها وقراءتها من زاوية أعمق: “فقه الحياد”، لا باعتباره موقفاً متوازناً، بل كمنظومة فكرية زائفة تبرّر الصمت، وتُجمّل التخاذل، وتحول الجريمة إلى “رأي” قابل للنقاش.
وحين تتعارض هذه المواقف مع جوهر الإنسانية وما يحمله الضمير من إحساس بالعدل، يصبح من الضروري مقاربتها من منظور آخر، ضمن مساقات علم النفس السياسي، لفهم جذورها ودوافعها وآثارها.
ففي علم النفس، تُوصَف الشخصيات بحسب أنماطها السلوكية: شجاعة، نبل، وفاء… أو أنانية، تملّق، وخيانة، وهذه السمات لا تخص الأفراد وحدهم، بل تنسحب على الدول أيضاً، التي تتجلى أخلاقياتها في مواقفها من القضايا العادلة، فكما نصف إنساناً بالخضوع للمصلحة على حساب المبدأ، يمكن أن نصف منظوماتٍ كاملة بالتراجع الأخلاقي حين تفشل في اتخاذ موقف واضح أمام الجريمة.
ويجسد هذا “الحياد” نموذجاً نفسياً مأزوماً: “النرجسي المحايد”، ذاك الذي يطعنك ويقنعك أن الطعنة ضرورية، يتخلى عنك ثم يلومك على انهيارك، يخفي تقاعسه خلف خطاب موزون، ويقنع نفسه والآخرين بأنه حكيم ومتزن، وهو النمط الذي نراه اليوم في سلوك بعض الدول والمؤسسات والمنصات الإعلامية والثقافية التي تسوّق الصمت على أنه “اعتدال”، والمراوغة على أنها “موضوعية”، بينما هي في جوهرها تواطؤ مُقنَّع.
لا يعترف بوجودك إلا إذا خدمت صورته، يراك رقماً لا إنساناً، يطالبك بالصمت باسم العقلانية، وبالتهدئة وأنت تنزف، يرفض أن يسمّي الجريمة باسمها حتى لا يغضب حليفاً أو يربك تحالفاً، وهنا تبرز الحاجة إلى مراجعة مفاهيم مثل “الحياد” و”المصلحة”: فليس كل صمتٍ حكمة، وليس كل اتزانٍ أخلاقاً؛ هناك صمت خوف، وصمت حسابات، وصمت ينذر بانهيار أخلاقي، حين تختار بعض الأطراف الوقوف في المنطقة الرمادية حيث تُطمس القيم خلف المصالح.
وكما يفشل من يتخلى عن مبادئه في بناء علاقة إنسانية حقيقية، تفشل الدول التي تحايد القضايا الواضحة في بناء ثقة الشعوب، قد تملك هذه الدول القوة، لكنها تفتقر إلى الشرعية الأخلاقية، وقد تُجمّل خطابها بلغة القانون، لكنها تتعرّى أمام الضحايا والمقهورين، تماماً كما يعيش الفرد المتذاكي عزلة وسط ضجيجه، تعيش تلك الدول عزلة في ضمير العالم، وتخسر ما لا يُشترى: المصداقية.
ومع سقوط هذا “الحياد النرجسي”، تبرز المسؤولية الفردية والجماعية: فليست كل المعادلات تُحسم في الغرف المغلقة، بل هناك مقاومة ناعمة تُبنى بالوعي والذاكرة، وباستثمار الأدوات المتاحة لتحشيد الرأي العام، وتوثيق الجريمة، وكشف الزيف، قد لا نملك وقف الطائرات، لكننا نملك القدرة على صناعة ذاكرة عصية على المحو، ذاكرة تحاسب بالصورة والكلمة كما تحاسب بالقانون، وكما لا تُنسى المجازر، لا تُنسى وجوه الصامتين، ولا ملامح من ساوى بين الجلاد والضحية.
وفي النهاية، السقوط لا يطال الجلاد وحده، بل كل من خان ضميره وتنكر لإنسانيته وبارك الجريمة بالصمت، أما الشعب الفلسطيني، فليس مجرد ضحية، بل حامل لقضية عادلة، وصمود يُحرج العالم، وإرادة تصنع التاريخ في وجه الغياب.

شاركها.