مع اقتراب نهاية الحرب على قطاع غزة، تتجه الأنظار إلى مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، حيث تبرز مهمة إعادة الإعمار بوصفها التحدي الأكبر والأكثر تعقيدًا. فحجم الدمار غير المسبوق يضع غزة أمام مسار طويل قد يمتد لعقود، ما لم تُعتمد مقاربة واقعية ومنسقة منذ اللحظة الأولى. وفقا لصحيفة فورين بوليسي الأمريكية.

تشير التقديرات إلى أن نحو 70% من مباني القطاع تعرضت للتدمير أو الضرر الجزئي، فيما نزح قرابة 90% من السكان، وتعرضت البنية التحتية الأساسية – من مياه وكهرباء وصرف صحي وطرق – لانهيار شبه كامل. ووفق تقديرات أولية، قد تتجاوز كلفة إعادة الإعمار 70 مليار دولار، وهو رقم يقارب كلفة إعادة بناء مدن أوروبية دمرتها الحرب العالمية الثانية.

عقبات سياسية وأمنية

لا يمكن فصل ملف الإعمار عن السياق السياسي والأمني. فحتى الآن، لا توجد ترتيبات حوكمة واضحة لإدارة القطاع، ولا ضمانات لاستقرار أمني طويل الأمد. ويجمع مراقبون على أن غياب إطار سياسي متماسك سيجعل أي جهود إعمار عرضة للتعطيل أو الانهيار، كما حدث في تجارب سابقة في مناطق نزاع أخرى.

ويرى خبراء أن نجاح إعادة الإعمار يتطلب تنسيقًا مبكرًا بين المجتمع الدولي والجهات الإقليمية، إلى جانب رؤية مشتركة تتجاوز الحلول المؤقتة، وتضع أهدافًا قابلة للتحقيق على المديين المتوسط والطويل.

دمار شامل وإعادة تخيّل غزة

الحرب لم تدمّر المباني فقط، بل طالت المشهد الحضري والذاكرة الجمعية للفلسطينيين، إلى حد أن كثيرين قد لا يتعرفون على أحيائهم ومدنهم. وفي هذا السياق، يطرح بعض المخططين فكرة أن إعادة الإعمار لا يجب أن تقتصر على “إعادة ما كان”، بل أن تشكّل فرصة لإعادة تخطيط غزة بشكل أكثر استدامة وحداثة.

وتقترح دراسات تخطيطية دولية مقاربة شاملة تشمل قطاعات النقل والطاقة والمياه والتخطيط العمراني والحوكمة والبيئة، بما يتيح للقطاع – نظريًا – التحول إلى منطقة قادرة على خدمة سكانها والاندماج في الاقتصاد الإقليمي، بدل بقائها مساحة منكوبة ومعزولة.

زمن الإعمار: توقعات غير واقعية

تجارب إعادة الإعمار في مناطق نزاع سابقة، من العراق وسوريا إلى الولايات المتحدة بعد إعصار كاترينا، تظهر أن التعافي الكامل غالبًا ما يستغرق عقدًا أو أكثر، حتى في الدول المستقرة. أما في البيئات الهشة سياسيًا وأمنيًا، فقد يمتد الإعمار إلى أجيال.

وتحذر دراسات مقارنة من أن الحديث عن إعادة إعمار غزة خلال خمس سنوات فقط يفتقر إلى الواقعية، خصوصًا في ظل تعقيدات الملكية، وحجم الركام، ونقص القوى العاملة، والقيود المفروضة على المواد الأساسية.

الركام… أزمة بحد ذاتها

يُقدَّر حجم الأنقاض في غزة بنحو 68 مليون طن، وهو رقم يفوق بكثير ما شهدته مدن مثل الموصل بعد الحرب ضد تنظيم “داعش”. ويحتوي الركام على ذخائر غير منفجرة ورفات بشرية، ما يجعل عملية إزالته بطيئة وخطِرة. وتشير تقديرات أممية إلى أن إزالة الركام وحدها قد تستغرق نحو 20 عامًا إذا لم تُوفر موارد وتقنيات استثنائية.

ويرى مختصون أن التعامل مع هذه الأزمة يتطلب تحديد أولويات جغرافية، والاستفادة من تقنيات حديثة، وربما إعادة تدوير الأنقاض لاستخدامها في مشاريع بنية تحتية مستقبلية.

أزمة السكن المؤقت

مع تدمير معظم الوحدات السكنية، يواجه القطاع تحديًا فوريًا يتمثل في إسكان ما يصل إلى 1.5 مليون نازح. ويحذر خبراء من تكرار سيناريو “المخيمات المؤقتة الدائمة”، التي تحولت في تجارب سابقة – بما فيها المخيمات الفلسطينية منذ 1948 – إلى واقع طويل الأمد.

وتُطرح بدائل تقوم على إنشاء مساكن انتقالية مخططة يمكن أن تتحول لاحقًا إلى أحياء دائمة، مع إعادة تأهيل المناطق القابلة للسكن بشكل تدريجي.

قيود المواد والتمويل والحوكمة

لا تزال القيود المفروضة على دخول مواد البناء تشكل عقبة مركزية. ويرى خبراء أن استمرار هذه السياسات سيقوض أي محاولة لإعادة الإعمار، داعين إلى آليات رقابة دولية توازن بين المتطلبات الأمنية واحتياجات البناء.

في الوقت نفسه، يؤكد مختصون أن تدفق الأموال وحده لا يكفي، في ظل تجارب سابقة أظهرت أن غياب الإدارة الرشيدة والحوكمة أدى إلى هدر مليارات الدولارات في مناطق نزاع أخرى. ويبرز هنا مطلب إنشاء هياكل تنسيق شفافة لإدارة التمويل والإشراف على المشاريع الكبرى.

نقص القوى العاملة والتعافي المجتمعي

الحرب أضعفت القدرة البشرية في غزة بشكل كبير، مع مقتل وإصابة آلاف من العمال والمهنيين، واستمرار ضعف مشاركة النساء في سوق العمل. ويُنظر إلى برامج التدريب المهني واستقدام عمالة خارجية منظمة كجزء أساسي من أي خطة تعافٍ.

كما أن إعادة الإعمار لا يمكن أن تنجح دون معالجة الآثار النفسية والاجتماعية العميقة للحرب، بما في ذلك الصدمات الجماعية، والإعاقات، وتآكل الثقة المجتمعية.

عام حاسم

يرى مراقبون أن العام المقبل سيكون حاسمًا في تحديد مسار تعافي غزة: إما انطلاق عملية إعادة إعمار واقعية وممنهجة، أو الغرق في مسار طويل من التعطيل والفشل. ويؤكد الخبراء أن التفاصيل التقنية – من إدارة المشاريع إلى تنسيق المانحين – ليست مسائل ثانوية، بل تشكّل الأساس لأي استقرار مستدام.

وفي حال أُحسن التعامل مع هذه المرحلة، قد تمثل إعادة إعمار غزة فرصة نادرة لكسر دائرة العنف المتكررة، ومنح الفلسطينيين إمكانية حقيقية لإعادة بناء حياتهم في وطنهم، بدل الاكتفاء بإدارة أزمة مفتوحة بلا أفق.

شاركها.