منذ طفولتي، ظلّت حكاية النزوح الأولى التي رواها أبي (رحمه الله) هي المفتاح لفهم وجع الفلسطيني وذاكرته. كان يجلس بيننا، يروي تلك الأيام التي استُدرج فيها أهل قريته “حُليقات” لمغادرتها، بحجة “الابتعاد فقط لأيام معدودة عن مناطق العمليات العسكرية”. حملوا ما استطاعوا، وتوجّهوا على عجل جنوبًا، كما قيل لهم، بحثًا عن ملاذ مؤقت. لكن من المحزن أن المؤقت صار دائمًا، والرحيل القصير صار قدرًا طويلًا من الاغتراب والألم.

وصلت العائلة إلى تخوم الجنوب، ونصبوا رحالهم في العراء، ينتظرون ضوءًا يُبشّر بالعودة. حاول أبي أن يعود إلى القرية، ليتفقد الحال ويحمل شيئًا من المتاع، لكنه وُوجه بوجود القوات العربية التي منعته من التقدم وحذّرته من الاقتراب. عاد إلينا مُثقلًا، وقال بلهجة من استشعر الحقيقة القاسية: “القطيّة طوالي… وما فيش في الأفق أي فرج.. ضاعت البلاد”. ثم بدأت الأخبار تتواتر: القرية سقطت بيد العصابات الصهيونية، ولا عودة آمنة إليها. هكذا اضطرّ أبي، كما آلاف غيره، إلى متابعة السير جنوبًا باتجاه غزة.

قطعوا ما يقارب خمسةً وعشرين كيلومترًا، في ظروف من الخوف والجوع والإنهاك، وكان أبي يحمل ابنته الصغيرة (نعمة) على درّاجته، وهي كانت كل ما تبقّى له من ممتلكاته. وانتهت رحلة النزوح في رقعة خالية من أرض رفح، لم تكن آنذاك سوى صحراء مهجورة، قبل أن تتحول لاحقًا إلى مخيم الشابورة.

كبرنا، وتوقفت حكاية أبي عند حدود ذاكرتنا الطفولية. كنّا نظنّ أنها فصلٌ انتهى من رواية الوطن. ولكن اليوم، وبعد عقود، وجدتُ أن الرواية ذاتها تعود إليّ بكل تفاصيلها، ولكن بقسوة أشدّ ووجعٍ أعمق؛ فمشهد النزوح الذي نعيشه اليوم في غزة ليس إلا امتدادًا لتلك النكبة الأولى، بل هو نكبة ثانية كبرى، حملت إلينا الخراب من جديد، وأعادتنا إلى مشهد “صفر أملاك”؛ فلا بيت، ولا مأوى، ولا شيء نلوّذ به سوى بقايا عزيمة، وحلم يراودنا بأننا يومًا ما سنعود.
 وها هي مشهدية التاريخ تعيد نفسها مع وقع الكارثة الجديدة وتداعياتها التي أهلكت الحجر والشجر ونفوس آلاف البشر..
وكما كنا نقول دائمًا عندما تقع المصائب: “المال معوّض”، و“الله يعوّضكم خيرًا”، وأخذت هذه العبارة وامثالها تتردد على ألسنتنا الموجوعة والمثقلة بالأحزان مرة أخرى، وكأن التاريخ يعيد دورته المؤلمة بلا رحمة.

نحن اليوم ندخل العام الثالث منذ كانت معركة طوفان الأقصى وما تبعها من حرب الإبادة على قطاع غزة. 
للأسف، كانت خيام النزوح التي لجأنا إليها لم تمنحنا دفئًا في شتاء البرد القارس، ولا ظلًّا يحمينا في قيظ الصيف الحار، ولا أمانًا في ليالٍ يتكالب فيها الخوف من كل الجهات. أصبحت الخيمة عنوانًا لحياة معلّقة بين الأرض والسماء، بلا حاضرٍ حقيقي، وبلا مستقبل واضح.

في المقابل، كانت الذكريات هي الملاذ الوحيد للنازحين، إذ كانوا يبكون بيوتهم، صورهم، حكاياتهم، رائحة أطعمتهم، وأيامهم التي سلبتها الحرب فجأة.
في مجالس النساء، لا حديث إلا عن “ما قبل الحرب”: عن البيوت العامرة، عن الضحكات في المساء، عن أطباق العيد، وعن ساعاتٍ كانت تبدو اعتيادية لكنها الآن أثمن من كل شيء. ثم يأتي الحديث عن النزوح: عن صرخات الأطفال، عن الطرق المتربة، عن فقدان الأمان، وعن الأيام التي مرّت وكأنها سنوات من التهجير.

أما الذين فقدوا أبناءهم أو تهدمت بيوتهم بالكامل، فهؤلاء يعيشون الفجيعة في كل لحظة. لا كلام يخفف أحزانهم، ولا وعد يعيد إليهم ما فقدوه. تركوا أمرهم لسفينة الأيام، تسير بهم إلى حيث يشاء القدر.

أمّا مستقبل النازحين، فهو أكثر ما يثير القلق. فلا أحد منهم يعلم إلى أين المصير، ولا ما ستؤول إليه المفاوضات. إنَّ الهم الأول اليوم هو لقمة العيش، وشربة الماء، وجرعة الدواء، ولحظة الأمان المؤقت. وما عدا ذلك، فهو خارج إرادتهم، تُقرّره غرف السياسة ودهاليز المفاوضات.

وفي الوقت الذي تتناقل فيه الألسن أحاديث عن حلول أو تسويات، يدرك المثقفون أن معظمها لا يتجاوز حدود الوهم أو ما يتم الرهان عليه من “أضغاث أحلام”. فواقع الناس أكثر قسوة من أن يُختزل في بيانات أو توقّعات. لم يعد حديث السياسة قادرًا على خداع من رأى البركان يغلي تحت قدميه.

إنّ ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل هو فصل جديد من فصول الوجع الفلسطيني وتقلبات ألم الليل والنهار. اليوم، نحن نعيش ذاكرة وطنٍ مُثخن بالجراح، نعود من جديد لسرد حكايته، جيلاً بعد جيل، وكأن القدر اختار لنا أن نكون شهودًا دائمين على معارك الفقد والصمود.

ومع ذلك، ورغم كل هذا الركام، يبقى في القلب يقين راسخ: أنّ الشعوب التي تعلّمت أن تعيش من رمادها لا تموت. وأنّ الذاكرة، مهما أثخنتها الجراح، قادرة على أن تمنحنا القوة للمضيّ إلى يومٍ تكون فيه الحكاية أقلّ ألمًا، وأكثر عدلًا.

شاركها.