قامات مضيئة عبر “أثير”: “أمل دنقل”.. صوت من لا صوتَ لهُ
أثير – مكتب أثير في تونس
إعداد: محمد الهادي الجزيري
تصدّر اسم الشاعر أمل دنقل محرّك البحث “جوجل”، وذلك بمناسبة ذكرى رحيله الأربعين سنة، التي حلّتْ يوم الأحد الموافق 21 مايو 2023، وقد رحل الشاعر الكبير المبدع بعد معاناة لمدّة ثلاث سنوات مع المرض الخبيث، رحل مخلّفا وراءه مدوّنة شعرية تضجّ بالحياة، وكان صوت المعارضة لكلّ خائن أو عميل، ومن أشهر قصائده “لا تصالح” التي كتبها قبل زيارة الرئيس الراحل أنور السادات إلى القدس، وبهذه المناسبة المذكّرة بالكفاح والنضال، أعرض عليكم سيرة حياة أمل دنقل، عسى أن ينبت في الأرض جيل آخر ويحمل عنه الوصية الثقيلة، يرحمه الله ويجازيه خيرا على ما قدّمه من شحنة معنوية وأشعار خالدة في الحبّ والمقاومة وصراع الألم.
هو محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل، المولود سنة 1940م، شاعر معاصر ومفكر ومثقف وقومي عروبي من جمهورية مصر العربية، وُلدَ أمل دنقل في الصعيد المصري من أسرة صعيدية في قرية القلعة في محافظة قنا في الصعيد، وكان والده من علماء الأزهر الشريف، وقد أثَّرتْ هذه المكانة التي كانت لوالده في شخصيته بشكل واضح، كما ظهرَ هذا التأثير في قصائده، وقد سُمِّي أمل دنقل بهذا الاسم لأنَّه جاء في السَنة التي حصل فيها والده على إجازة عالمية، فسمَّاه باسم أمل لنجاحه في ذلك العام، وقد ورث عن والده كتابة الشعر، كما ورث عنه مكتبة ضخمة فيها الكثير من كتب الفقه والشريعة والتفسير، وفي سنّ العاشرة فقد أمل والده فكان لهذا الفقد المبكر أثر كبير على حياته، ولم يعش أمل دنقل طويلًا، فقد توفي وهو في الثالثة والأربعين من عُمُره بعد صراع مع مرض السرطان في عام 1983م.
لنبدأ بأهمّ قصيدة له وهي “لا تصالح” وبيّن خلالها مدى تعلّقه بالقضية الفلسطينية باعتبارها قلب القضايا العربية، وفيها عبّر عن شعرية أخاذة وبديعة رغم أنّ القصيدة ليست غرامية بل صرخة مقاومة ورفض لكلّ الحلول المفروضة فرضا على العرب وهذا مطلعها:
لا تصالحْ!
ولو منحوك الذهب..
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما فجأةً بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ مبتسمين لتأنيب أمكما.. وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي بين عينيك ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس فوق دمائي ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
تعلّم أمل دنقل في الصعيد إلى أنَّ أنهى مرحلة الثانوية العامة، ثمَّ ارتحل إلى القاهرة وفيها التحق بكلية الآداب، ولكنَّه انقطع عن الجامعة في العام الأول من أجل العمل، وقد تنقَّل في عدَّة وظائف، حيث عمل موظفًا في محكمة قنا وفي جمارك السويس والإسكندرية ثمَّ عمل موظفًا في منظمة التضامن الأفروآسيوي، ولأنَّه من الصعيد شعر بالصدمة عندما ارتحل إلى القاهرة، شأنَّه في هذا شأن جميع أهل الصعيد، وقد ظهرت هذه الصدمة واضحة في بداياته الشعرية، كان والده كثير التنقل بين قرية القلعة وبين مدينة من مدن القنا، هذا التنقل أثر بشكل واضح في طبيعة أمل دنقل، ولمَّا بلغ العاشرة من العمر تعرَّض لأول مأساة في حياته بعد وفاة والده، فما كان من والدته إلَّا أنْ حرصت على لمِّ شمل العائلة والعناية بأولادها وتوفير كلِّ سبل العيش، وسعت إلى تربيتهم وتعليمهم وتحسين علاقاتهم مع الناس.
أقدّم لكم مقطعا من أهمّ قصائد أمل دنقل، وهي “البكاء بين يديْ زرقاء اليمامة” وتعدّ هذه القصيدة أهدت عنوانها لمجموعة كاملة:
أيتها العرافة المقدَّسةْ
جئتُ إليك مثخنًا بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ
أسأل يا زرقاءْ عن فمكِ الياقوتِ عن نبوءة العذراءْ
عن ساعدي المقطوع وهو ما يزال ممسكًا بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء
فيثقب الرصاصُ رأسَه في لحظة الملامسة!
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!
أسأل يا زرقاءْ عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدارْ
عن صرخة المرأة بين السَّبي والفرارْ؟
كيف حملتُ العار ثم مشيتُ دون أن أقتل نفسي؟
دون أن أنهار؟ ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة؟
جدير بالذكر إنَّ الشاعر أمل دنقل أصيب بمرض السرطان وعانى منه معاناة شديدة طيلة ثلاث سنوات، سكب هذه المعاناة على ورق في مجموعته الأخيرة “أوراق الغرفة 8″، والغرفة 8 هي غرفته التي حارب السرطان فيها في المعهد القومي للأورام، وعلى الرغم من مرضه الشديد إلَّا أنه لم يتوقف عن كتابة الشعر، حتَى قال عنه أحمد عبد المعطي حجازي: “إنه صراع بين متكافئين، الموت والشعر”، وقد رحل الشاعر أمل دنقل عن هذا العالم في يوم السبت، اليوم الواحد والعشرون من مايو من عام 1983م وهو في الثلاثة والأربعين من العُمُر، وكانت أواخر لحظات حياته مع صديقه الدكتور جابر عصفور والشاعر عبد الرحمن الأبنودي، ليرحل أمل دنقل تاركًا وراءه نتاجًا شعريًا عظيمًا.
خلّف الراحل إرثا شعريّا حيّا صالحا لزماننا هذا، ففيه كلّ ما يبعثنا من جديد من الهوّة التي يراد لنا أن نستكين ونهمد فيها، جزاه الله على ما بذله من جهد وخاصة على مقاومته للذلّ والخضوع وللمرض الفتّاك.
صدرت له ست مجموعات شعرية هي:
البكاء بين يدي زرقاء اليمامة ـ بيروت 1969
تعليق على ما حدث ـ بيروت 1971
مقتل القمر ـ بيروت 1974
العهد الآتي ـ بيروت 1975
أقوال جديدة عن حرب بسوس ـ القاهرة 1983
أوراق الغرفة 8 ـ القاهرة 1983
كانت أشعاره وقود المظاهرات في مصر، فقد صرخ المتظاهرون بها بأعلى أصواتهم، ورددها آلاف الناس في المظاهرات الشعبية التي كانت تخرج تنديدًا بمعاهدات السلام، فكان أمل دنقل صوت الناس الذي يُعبر عن كل ما يدور في خواطرهم، عن كلِّ ما دار في خاطر المصريين بعد نكسة حزيران ومعاهدات السلام التي حدثت في تلك الفترة، كما كتب أمل دنقل عن مرضه وعن الغرفة 8 التي عُولج فيها، لقد كان صلبا كالصخرة ومات مؤمنا بجيل جديد يردُّ لنا ما افتكّ منّا غصبا وعدوانا.
قصيدة بعنوان “الموت فى.. الفراش”، يندّد فيها بهادم اللذات ومفرّق الجماعات ومبيد الجسد الحيّ النابض، وفيها يحلّ في شخصية تاريخية وهي “خالد بن الوليد”:
أيها السادة لم يبق اختيار
سقط المهر من الإعياء
وانحلت سيور العربة
ضاقت الدائرة السوداء حول الرقبة
صدرنا يلمسه السيف
وفى الظهر الجدار
“أموت فى الفراش.. مثلما تموت العير”
أموت، والنفير
يدق فى دمشق
أموت فى الشارع، فى العطور والأزياء
أموت، والأعداء
تدوس وجه الحق.
“وما بجسمي موضع إلا وفيه طعنة برمح”
.. إلاّ وفيه جرح
إذن
“فلا نامت أعين الجبناء”
ختاما أترككم مع عبلة الرويني زوجة الشاعر الراحل في وصفها له:
“فوضوي يحكمه المنطق، صريح وخفي في آن واحد، انفعالي متطرف في جرأة ووضوح، يملأ الأماكن ضجيجاً وصخباً وسخرية وضحكاً ومزاحاً، استعراضي يتيه بنفسه في كبرياء لافت للأنظار، بسيط بساطة طبيعية يخجل معها إذا أطريته وأطريت شعره، صخري شديد الصلابة، لا يخشى شيئاً ولا يعرف الخوف أبداً، ولكن من السهل إيلام قلبه”.