كأن غزة تحوّلت إلى مشهد دائم للاستدرار العاطفي، بينما العالم يكتفي بالتحديق. منذ 21 شهراً، تتوالى بيانات الشجب والمناشدات من دول إما شريكة في حرب الإبادة، أو متآمرة أو متواطئة بصمتها. الجوع في غزة ليس طارئًا ولا عابرًا، بل سياسة منهجية وسلاح موجه ضد الفلسطينيين.

الوضع الإنساني كارثي. الجوع أصبح القاعدة، والمجاعة تتمدد كالنار في هشيم البشر. حين يتحول الجوع إلى مجاعة، نكون أمام جريمة حرب مكتملة الأركان، ووصمة عار على جبين الإنسانية. الجميع في غزة يشعر بالجوع، لكنه ليس شعورًا طارئاً، بل واقع قاتل. الناس يموتون جوعاً فعلاً، وسط مزيج من المرض، والإهمال، والحصار، والعزلة. لم يعد الألم في القصف أو التشريد، بل في صمت البطون الخاوية.

أمس نقل عن صندوق الأمم المتحدة للسكان، أن نحو 55 ألف امرأة حامل في قطاع غزة، منهن 11 ألفا في خطر المجاعة، ويتوقع أن تلد آلاف النساء خلال الشهر المقبل.

تروي أمٌ بمرارة: “المشكلة عند الأطفال. لما ابني يقول لي: يما أنا جعان، شو أرد عليه؟ أقول له: من وين أجيب؟، فيرد: وأنا مالي، أنا جعان”.
وتقول سيدة باكية: “بطعمي أولادي ميه، طول اليوم بناكل ميه”. لم تعد هذه الجملة استعارةً شعبية، بل توصيفاً دقيقاً للواقع. 

الجسد الغزّي بدأ يلتهم نفسه. لا طعام يُشترى حتى لو توفر المال. الأسواق خالية، والطعام إن وُجد، يُسلَّم في مراكز الموت، حيث يُجبر الناس على الاختيار: إما الموت جوعًا، أو الموت برصاص الاحتلال.
القتل بالتجويع، حيث تمنع دولة الاحتلال دخول الغذاء، وتعرقل شاحنات المساعدات، وتفرض نظام توزيع يستدعي الفلسطينيين إلى نقاط تُشبه ساحات الإعدام الجماعي. يُطلب منهم الوصول فوراً، دون تنسيق مسبق، وأن يصطفوا في ظروف لا إنسانية. وإن انحرف أحدهم عن “التعليمات”، يُقتل بدم بارد، وتُبرر الجريمة بأنها “مشروعة”.

يسأل المتشككون بوقاحة: “أين الجثث؟”. الجثث ليست مرمية على الطرقات، بل خلف الجدران، وفي ممرات الجوع، وأمام مراكز القتل التي تُسمّى زورًا “نقاط مساعدة إنسانية”.
الجوع لا يُصرخ، لكنه يفتك بالأرواح، والمجاعة لا تحتاج إلى صور الجثث كي تُصدّق. ما يجري هو جريمة معلنة تُرتكب بصوت عال، وعلى مرأى العالم. هذه إبادة، لا فوضى حرب. ثمة نظام يعمل على مدار الساعة: يُصدر التعليمات، يُخبر الجنود أنهم يستطيعون القتل دون محاسبة، يُشرف على آلية التجويع، ويمنع الغذاء والدواء من الوصول. وهذا بالضبط هو تعريف الإبادة الجماعية: وجود نية، وتنفيذ، واستمرار.

في غزة، الفلسطيني يخفي وجعه خلف صمت ثقيل. يتجاهل جوعه ليحافظ على كرامته، ويُقنع نفسه أنه لا يزال إنسانًا، رغم كل ما يذلّه ويُفتته نفسيًا وجسديًا. يحاول أن يبدو عاديًا، فقط ليبقى متماسكًا. لا حاجة للإشارة إلى “محرقة غزة”، فكل إبادة فريدة في وحشيتها. ما يميز هذه الإبادة أنها بلا سرية، بلا توقف، وبلا أي اعتبار لوجود الفلسطينيين كبشر. الجرائم تُرتكب علنًا، بلا خجل، بلا رادع، بلا عقاب. لا توجد أوامر خفية، لأن النية باتت هي الرسالة.

التقارير الطبية والحقوقية تؤكد أن المجاعة الجماعية بدأت فعلاً في حصد الأرواح. لقد تجاوزنا نقطة اللاعودة. كل شيء كان معروفًا، متوقعًا، ومحذَّرًا منه. ومع ذلك، تُنفَّذ الجريمة أمام الكاميرات، وتُدار من غرف عمليات عسكرية وسياسية.

لا أحد في هذا العالم بريء. أولئك الذين “يشككون”، والذين يصدرون تقارير كاذبة تزعم أن سكان غزة يتلقون ما يكفي من الطعام، والذين يوقفون شاحنات المساعدات، والذين يضعون خططًا “للاستجابة الغذائية” بدلًا من وقف القتل، كلّهم شركاء في الجريمة.

أما الأنظمة العربية، فمعظمها طبّع مع القتل بدل مواجهته. المفاهيم الأخلاقية والإنسانية تفككت، وتحولت إلى شعارات جوفاء. التضامن لم يعد رفاهاً أخلاقياً، بل ضرورة وجودية، دفاعًا عن معنى الإنسانية.

وعن  “الحلول الفردية”، والأخبار عن استعداد بعض الدول العربية والأوروبية التي لا تعترف بالإبادة لإدخال المساعدات عبر الإنزال الجوي، فهي تكرار لمحاولات فاشلة سبق أن أزهقت أرواحاً بدل إنقاذها. لا تصل للجميع، ولا تُوزّع بعدالة، وتُستخدم لتلميع صورة دولة الاحتلال. الجميع يعرف أن الحل ليس بإنزال فتات فوق الجوعى، بل بوقف العقاب الجماعي، وفتح المعابر لتدفق المساعدات بكرامة وعدالة.

يا له من عالم لا يعجز، بل يكرّس الظلم، ويُقنّن المجاعة، ويدفن ما تبقى من إنسانية الفلسطينيين في قطاع غزة. لا شيء يعلو على إنقاذ الأرواح. إسرائيل تكرّس كل جهدها لتصفية الفلسطينيين. وإذا لم يكن هذا هو التعريف الحيّ للإبادة، فما هي الإبادة إذًا؟ الآن، لا شيء أهم من إنقاذ الأطفال والرضّع من حصار الغذاء والدواء. كل شيء آخر يأتي لاحقًا.

شاركها.