تتّقد الذاكرة كجمرٍ في ليل الوعي العربيّ في الأول من تشرين الثّاني من كل عام، في ذكرى ثورة التّحرير الجزائرية، كأنّها لا تعود إلينا من الماضي، بل من جوهر الإنسان نفسه، لتسائلنا: هل الحريّة حدثٌ في التاريخ، أم هي جوهر الوجود كما تخيّلها هايدغر، حين قال إن الإنسان كائن منفتح على الإمكان؟ في الجزائر، تجسّد الإمكان في دمٍ طاهرٍ وصرخةٍ اخترقت العدم: “قسماً بالنّازلات الماحقات…”.

لم يكن النّشيد الوطنيّ الجزائريّ مجرد كلمات، بل موقف أنطولوجيّ؛ إعلان الإنسان عن حضوره الكامل في وجه محوٍ استعماري أراد أن يجعل الوجود ذاته فراغاً.

لقد فهم الجزائري، بشكل حدسيّ، ما قاله كامو ذات يوم عن العبث والتمرّد، لكنّه تجاوزه بالفعل لا بالقول. لم يكن التمرّد عنده فلسفة تأمليّة كما كتبها كامو في “الإنسان المتمرّد”، بل ممارسة مطلقة للحياة ضدّ الّلاجدوى، كأنّه يجيب بصمتٍ على سؤال الوجود: “أنا أقاتل، إذن أنا موجود.”

كان كلّ شهيدٍ في الأوراس أو قسنطينة أو العاصمة يجسّد فكرة سارتر حين ربط الحريّة بالاختيار: “الإنسان محكوم عليه أن يكون حرّاً”، وكان الجزائريّ يختار – رغم الدّماء والدّمار – أن يكون حراً، لا محكوماً إلا بشرفه.

ولذلك لم تكن الثّورة الجزائريّة فقط فعلاً سياسيّاً، بل حدثاً ميتافيزيقياً. لقد نزعت عن الحريّة معناها المجرّد، وجعلتها مادة محسوسة، تُلمس بيدٍ مضرّجة وتُشمّ في هواءٍ مبللٍ بالبارود. في تلك الجبال، كانت الفلسفة تتجلّى من الكتب إلى الأرض، وكان الإنسان يصنع فكره بالرّصاص، لا بالحبر.

ومن هناك، حيث التحوّل من الفكرة إلى الفعل، وُلدت تلك الصّلة الروحيّة العميقة بين الجزائر وفلسطين. كلا الشعبين قرآ العالم من موقع الجرح، وكأنّهما يتبادلان السّؤال الوجودي ذاته: كيف نستعيد معنى الإنسان في عالمٍ فقد قلبه؟

لذلك لم يكن إعلان الرّئيس الخالد ياسر عرفات استقلال دولة فلسطين في الجزائر عام 1988 صدفة تاريخيّة؛ بل كان تجليّاً لوعيٍ جمعيّ يرى في الجزائر المكان الرّمزي الذي تُستعاد فيه المعاني الكبرى. كان عرفات يدرك أنّ الذّاكرة الجزائريّة لا تحتضن فقط ثورة، بل نموذجاً للقيامة من الرّماد. ومن أرض المليون شهيد، أعلن أن لفلسطين الحقّ في أن تكون، لأنّ الجزائر قالت يوماً “أنا أكون”. 

ولأنّ الجزائر لم تفصل يوماً بين الإنسان والإنسان، كان دعمها لفلسطين امتداداً لوعيها الوجوديّ بالعدالة. الجزائري الذي جرّب نصل المستعمر، لا يمكنه أن يصمت على جرح شقيقه في غزّة أو نابلس أو القدس. ذلك أنّ الحريّة عنده ليست فكرة وطنيّة فحسب، بل قيمة كونيّة تتجاوز الحدود، كما قال فرانز فانون في “معذّبو الأرض” :إن الاستعمار ليس حالة سياسية، بل مرض في الوعي الإنساني.

وفانون، الطبيب والمقاتل في صفوف الثورة الجزائرية، كان يرى في الجزائر مختبراً للإنسانية الجديدة. ومن هذا المختبر انطلقت الفكرة التي لم تمت: أن التحرّر لا ينتهي بخروج المحتلّ، بل يبدأ بتحرير الوعي من الخوف.

وهكذا تتقاطع الجزائر وفلسطين في جدلية الخلاص والجرح؛ كلاهما يعلمان أن الحرية اختبار دائم للروح. الجزائر التي أضاءت ليلها بالدم، تعرف أن الطريق إلى القدس لا يُضاء إلا بالوجع ذاته. وكأنّ قدر الشعوب النبيلة أن تظلّ على الحافة بين الموت والمعنى، بين ما قاله دوستويفسكي عن “جمال ينقذ العالم” وبين ما فعله الشهداء حين جعلوا من الموت نفسه جمالاً سامياً.

وفي هذه الذّكرى، لا نحتفي بالثّورة كواقعةٍ ماضية، بل نستعيدها كأفقٍ دائم للوجود العربي. فالثورة الجزائرية لا تزال تسكن الفكر، لأنّها كانت قبل كلّ شيء فلسفة في أن تكون رغم المستحيل.

وفي هذا الامتداد، تظلّ فلسطين مرآتها اللّامرئية، تنظر إليها الجزائر فتراها صورةً أخرى لذاتها: بلدٌ يقاتل كي يبقى، وذاكرةٌ ترفض أن تُختصر في النّسيان.

إنّها الحريّة إذن، وعيٌ أبديّ بأنّ الإنسان هو الكائن الذي يقف دائماً في مواجهة العدم، ويقول: قسماً.
__________________________________
مقال لمناسبة ذكرى إعلان الاستقلال، وذكرى ثورة التحرير الجزائرية، عبر صحيفة الأيام الجزائرية في ملحق خاص لهاتين المناسبتين ..

شاركها.