أمام التحديات الكبيرة التي كشفها الاعتداء على دولةٍ مؤثرة وفاعلة في الوساطة لوقف الحرب وتبادل الأسرى، وبعلاقات دبلوماسية دولية مؤثرة، كما تتمتع بعلاقة استثنائية مع واشنطن، ودلالات ذلك كله من مخاطر على الأمن القومي العربي والخليجي خاصة، من المفترض أن تكون هذه القمة أكثر من مجرد اجتماع طارئ وتكرار بيانات غير قابلة للتنفيذ كما في القمتين السابقتين اللتين عقدا خلال حرب الابادة في قطاع غزة، ولم يردع أي من قراراتهما العدوان العسكري سواء من قبل تل أبيب أو واشنطن. فهل ستكون مخرجات هذه القمة مختلفة؟ هناك من يقول إن انعقادها وعدم إحداث تغيير جدي في المواقف العربية لن يكون أكثر من رسالة تُفيد أن إسرائيل بإمكانها المضي في فرض ما تُسميه «سلام القوة» العنجهية وفرض هيمنتها على المنطقة. وإذا كان الأمر كذلك، فلربما عدم انعقادها كان أفضل؛ لأنها ستكون معيارًا لعجز مزمن.

انعقدت القمة بينما تواصل إسرائيل حرب إبادة تستهدف تدمير واحدة من أعرق المدن العربية؛ فقد تحولت مدينة غزة بفعل الفاشية الصهيونية إلى أنقاض في وقت يقترب من دخول عامها الثالث من الإبادة، فيما تحولت عملية التهجير القسري المنظمة إلى خطوة فعلية لتطهيرٍ عرقي خارج فلسطين. وجاءت القمة بعد ضربة صاروخية للدوحة ومحاولة اغتيال قيادات حماس، لتكشف أن النار الإسرائيلية تتسع إقليميًا تحت سمع العالم وبصره.

النفاق الدولي في أوضح صوره

تتصدر الولايات المتحدة مشهد التلاعب بالمصير العربي. فهي تعلن حرصها على وقف إطلاق النار، لكنها تمنح إسرائيل السلاح والغطاء السياسي والدبلوماسي لمواصلة حرب الإبادة. واشنطن تفاوض على هدنة مؤقتة هنا، وتضغط هناك لإطالة أمد الحرب خدمةً لاستراتيجية إخضاع الفلسطينيين وإعادة تشكيل المنطقة.
أما دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، فقد أدّت الضغوط الشعبية الواسعة فيها إلى تطور نسبي في لغة المواقف، إلا أنها ما زالت هشة وضعيفة لا تتجاوز بيانات الشجب المترددة ودعوات «لتهدئة الجانبين»، وكأن القاتل والضحية متساويان، وتدور في فلك عجز كامل عن اتخاذ أي خطوة عملية مستقلة عن الإرادة الأميركية.

ما كان مطلوبًا من القمة

على القادة العرب أن يعلنوا قرارات بحجم الجريمة العدوانية على الدوحة التي تكشف طبيعة المشروع الاستعماري والهيمنة الصهيونية الذي يتجاوز حدود فلسطين؛ بما في ذلك فرض عقوبات سياسية واقتصادية على إسرائيل، وخفض العلاقات أو قطعها، سيما من الدول التي تربطها علاقات دبلوماسية رسمية أو غير رسمية مع تل أبيب. استمرار العلاقات «كما لو أن الأمور طبيعية» لا يعني سوى القبول بالإبادة والتهجير، وبما تخطط له إسرائيل من هيمنة لإخضاع المنطقة، وليس مجرد تصفية القضية الفلسطينية.

ولعل تقاعس العواصم العربية عن المشاركة مع جنوب أفريقيا في ملاحقة إسرائيل أمام المحاكم الدولية بمثابة إشارة إلى العجز، إن لم يكن أكثر من ذلك. فهل سنشهد تغيرًا في الدبلوماسية العربية نحو تحرك قانوني عاجل أمام المحاكم الدولية لملاحقة جرائم الإبادة والعدوان على قطر وفلسطين؟ وهل ستنهض بعض العواصم إزاء متطلبات فرض ممرات إنسانية آمنة لإيصال المواد المنقذة للحياة وإخلاء الجرحى ذوي الإصابات الحرجة وتوفير الحماية للمدنيين؟ هذه ليست شعارات، بل استحقاقات بقاء لأمة تواجه مشروعًا صريحًا لتفريغ فلسطين من شعبها.

ما هو متوقع للأسف

الوقائع تقول، وأرجو أن تكون توقعاتي خاطئة، إن البيان الختامي لن يتجاوز ترديد الإدانة والدعوة إلى التهدئة. التجربة تؤكد أن العواصم العربية الكبرى ما زالت أسيرة التحالفات الأمنية والاقتصادية مع واشنطن. فهل الخوف من العقوبات الأميركية، ومن اهتزاز أسواق المال أهم من دماء غزة أو من صواريخ تضرب الدوحة بحجة تصفية قيادة حماس؟ وهل ستكون تلك العواصم آمنة في وقت لا يتحدث فيه نتنياهو سوى عن «إسرائيل الكبرى»، ويظهر ترامب دعمه لهذه التوسعية، بأن الجغرافيا الإسرائيلية صغيرة ومن حقها أن تتوسع بحجم الدور الذي يرسمه تحالف «بيت ترامب الأبيض» والفاشية الصهيونية التوسعية؟

كل شيء يبدأ من فلسطين

المعادلة الجوهرية واضحة: من دون سياسة فلسطينية موحّدة لن يتشكّل موقف عربي وازن. عامان من الصمود في وجه الإبادة لم يتحولا بعد إلى مشروع سياسي يجمع الفلسطينيين على برنامج تحرر وطني. الفرصة قائمة، بل ملحّة، لإنجاز وحدة انتقالية غير فصائلية على غرار ما طُرح في بكين، عبر حكومة وطنية مؤقتة تدير المرحلة وتستند إلى برنامج مقاومة وصمود. والسؤال هو: لماذا لا تقوم العواصم العربية المركزية، بما في ذلك خلال هذه القمة، بتشجيع الأطراف الفلسطينية المهيمنة على المشهد، وتدفعها نحو المضي في تنفيذ مثل هذه الخطوة، إذا كانت فعلاً تريد الخروج من موقع المتفرج إلى موقع الفعل؟

عجز بنيوي يفضح التبعية

الضربة التي استهدفت الدوحة أظهرت أن إسرائيل تتصرف كقوة فوق القانون، مطمئنة إلى أن العرب عاجزون والغرب متواطئ. عندما تعجز قمة عربية عن حماية دولة خليجية ترتبط بعلاقات وثيقة مع الغرب، فكيف ستدافع عن غزة المحاصرة أو عن حق الفلسطينيين في البقاء على أرضهم وفي تقرير مصيرهم عليها؟

إن لم تتحول قمة الدوحة إلى لحظة كسر لهذا المسار فسيسجلها التاريخ كإحدى حلقات التواطؤ بالصمت. عندها تصبح بيانات الشجب مشاركة غير مباشرة في الجريمة، ويغدو الحديث عن «نظام عربي» مجرد وهم.

القمة : ادراك بالمخاطر وتعبير أعمق عن العجز 

قمة الدوحة امتحان حقيقي: إمّا أن تتخذ وتعلن قرارات بحجم التحدي، أو تُثبت أن النظام العربي فقد القدرة على الفعل، مكتفيًا بانتظار ما تقرره واشنطن. لكن الطريق إلى أي نهضة عربية يمر أولًا من فلسطين. إما أن يتحول صمود شعبها الأسطوري إلى سياسة فلسطينية موحّدة تنطلق منها مبادرة عربية حقيقية، أو سنشهد فصولًا أفظع من التطهير العرقي، فيما يكتفي العالم بتكرار عبارات «القلق العميق» ويمضي صامتًا على محرقة تعهد يومًا بعدم السماح لتكرارها، وها هي تتكرر على أيدي من اعتُبروا يومًا ضحايا فشل الغرب. فالهولوكوست يتكرر، ولن يضع حداً له سوى موقف يردع مرتكبيه. لقد أوضحت القمة بشكل عميق المخاطر المحدقة، كما أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك مدى العجز في مواجهة هذه المخاطر .  وفي كل الأحوال، فهذا وطننا الذي لا وطن لنا سواه، وليس أمامنا سوى الدفاع عن حقنا في البقاء على أرضه، وبناء مستقبلنا الحر والمزدهر فيه طال الزمن أم قصر .

شاركها.