بقلم: د. هشام عوكل – أستاذ إدارة الأزمات والعلاقات الدولية

ما يجري في غزة لم يعد حربًا بل إبادة يومية ممنهجة أمام الكاميرات.

مئة فلسطيني يُقتلون يوميًا… أي أن غزة بعد أشهر قليلة قد تختفي من الوجود.

هذه ليست “عملية عسكرية” ولا “ردًا أمنيًا” بل المشروع الحقيقي لليمين الإسرائيلي: إبادة غزة، ضم الضفة الغريبة وإنهاء القضية الفلسطينية بالكامل.

نتنياهو لم يعد يختبئ وراء الشعارات.

قالها بوضوح: لا حل دولتين، ولا سلام.

لكن المضحك المبكي أن بعض العرب ما زالوا متمسكين بخرافة “حل الدولتين” في الوقت الذي أعلن فيه العدو نفسه وفاتها رسميًا.

فكيف نفاوض على حلمٍ قتل صاحبه؟

أما ترامب، فيُقدّم مسرحية عبثية لا تنتهي.

في الصباح يصرّح: “علينا إيقاف الحرب”.

في الظهيرة يتجاهل الأسئلة.

وفي المساء حين يُسأل عن الدولة الفلسطينية يكرر نفس العبارة: “علينا إيقاف الحرب”.

لا يريد وقفها ولا يمارس أي ضغط حقيقي بل يشتري الوقت ويمنح الضوء الأخضر لنتنياهو.

وهدفه النهائي واضح: إنهاء ملف غزة قبل نهاية 2025.

أي أن لا يبقى فلسطيني واحد فوق تراب القطاع.

ولكي تكتمل المسرحية، نجد بلير وكوشنر يلوحان من خلف الستار.

يجلسان على طاولة مفاوضات شكلية ليعطيا انطباعًا اوروبي بوجود “مسار سياسي”.

لكنها مفاوضات على زمن الإبادة لا أكثر.

فبينما العالم يتحدث عن “حلول” تُدفن الحلول مع أجساد الفلسطينيين.

حتى الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية لا تعدو كونها أوراقًا بروتوكولية.

خطوات رمزية تمنح أوروبا صورة “الداعم للحقوق” لكنها على الأرض لا توقف الحصار ولا تمنع القتل. إنه اعتراف بالشكل… وإنكار بالمضمون. أوروبا تقول للفلسطيني: نعترف بك… لكن كضحية!

التقرير الأممي عن المجاعة قال إن الجوع صار “أمرًا واقعًا”. لكن المبعوث الأميركي ويتكوف خرج لينفي.

كيف ينفي؟ والنساء تموت جوعًا والأطفال يتساقطون من شدة الوهن أمام الكاميرات! أي عالم هذا الذي يصنف الفلسطيني بأنه لا يستحق الحياة؟

ثم جاءت الفضيحة الكبرى:

الأمم المتحدة نفسها المقر الذي يُفترض أنه بيت الشعوب جميعًا، رفضت تأشيرة لوفد فلسطيني حضر ليمثل شعبه في اجتماع دولي حيث دولة فلسطين عضو مراقب 

أيعقل ذلك؟

أي ديمقراطية هذه التي تمنع الضحية من الكلام وتسمح للجلاد أن يخطب في المنصة ذاتها؟

وإذا كانت البرازيل قد قطعت علاقاتها مع الكيان، فإن بعض العرب ما زالوا يستقبلون سفراء إسرائيل بالسجاد الأحمر.

أليس من الحد الأدنى أن تسحب الدول العربية والإسلامية سفراءها الآن؟

إذا لم يكن في ظل حرب إبادة علنية، فمتى إذن؟

والسؤال الأهم:

إلى أين يذهب سكان غزة؟

من الشمال إلى الجنوب… ومن الجنوب إلى الجنوب الأعمق… ومن الوسط إلى الشمال… ومن الشمال إلى الوسط… ثم إلى الجنوب مجددًا.

أين يذهب مليونان من البشر محشورون في 350 كيلومترًا مربعًا؟

هل يُعقل أن كل هؤلاء حماس؟

إنها كذبة رخيصة، وذريعة للاستهتار بالأرواح البشرية لا أكثر.

لكن الحقيقة الأشد قسوة أن حماس نفسها لم يعد لديها أي هامش مناورة.

إذا استمرت آلة القتل حتى نهاية 2025، قد نصل إلى ربع مليون فلسطيني بين شهيد وجريح.

في هذه اللحظة الحديث عن “مناورة سياسية” يصبح عبثًا.

لقد وقع انقلاب فعلي على الأرض: لم تعد سلطة الأمر الواقع هي حماس بل باتت الشرعية الوحيدة هي السلطة الفلسطينية.

ولهذا ملف الأسرى الفلسطينيين والرهائن الإسرائيليين يجب أن يُسلَّم إلى السلطة الفلسطينية والدول العربية فيما تنسحب حماس من المشهد كاملًا.

هكذا فقط يُمكن نزع الذريعة التي يتذرع بها نتنياهو واليمين المتطرف.

وعلينا كعرب أن نذهب إلى العالم بوجه مختلف تمامًا: مبادرة عربية شاملة مع السلطة الفلسطينية حتى نسقط الأكذوبة الكبرى بأن هناك “عدو يهدد الكيان

في النهاية الحقيقة أقسى مما نتخيل:

الفلسطينيون يُدفعون ليصبحوا هنود حمر الشرق الأوسط.

ضحايا إبادة وتطهير عرقي ينظر العالم إليهم كأنهم عقبة يجب إزالتها.

أما نحن العرب والمسلمون؟

لقد قيل يومًا إننا “خير أمة أخرجت للناس” لكن واقعنا يصرخ أننا أصبحنا أسوأ أمة أرسلت للناس:

أمة ترى وتسمع وتشاهد، ومع ذلك تصمت، بل وتطبع.

شاركها.