من مذكّرات المستشار د. أحمد يوسف
تشرفتُ خلال مسيرتي بالتعرّف على عددٍ من مدراء عمليات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وكان من أبرزهم السيد جون كينغ؛ الإيرلندي الأصل، وكذلك السيد ماتياس شمالي؛ الألماني الجنسية.
عرفتُ أحدهما عن قربٍ أثناء عملي في الحكومة، وتعرّفتُ على الآخر من خلال الوفود الدولية التي كنت أرافقها إلى مقار الأونروا في غزة. كنت أشارك أحياناً في اجتماعاتٍ خاصة لمناقشة الأوضاع المأساوية التي يعانيها القطاع، أو في لقاءات مع منظمات أممية لتأمين احتياجاتنا العاجلة في القطاعين الإغاثي والصحي، إضافة إلى دعم العملية التعليمية المتعثرة.
ماتياس شمالي.. الجذور والبداية
وُلد ماتياس شمالي في ألمانيا عام 1963، في كنف عائلة مثقفة وذات اهتمامات إنسانية. كان والده طبيباً خدم في جنوب أفريقيا خلال سنوات النظام العنصري البغيض، وهناك فُتحت عينا ماتياس الطفل على معاناة السود تحت نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد). تركت تلك التجربة أثراً عميقاً في وعيه المبكر، وصنعت بدايات إدراكه لمعاني الظلم والاستبداد، ورسّخت في وجدانه القيم الأممية والعدالة الاجتماعية.
درس ماتياس العلوم السياسية والإدارية في جامعات ألمانية مرموقة، وانخرط مبكراً في مؤسسات العمل الإنساني، حيث عمل مع منظمات دولية رائدة كـ”كاريتاس” و”الصليب الأحمر”، قبل أن ينضم إلى منظومة الأمم المتحدة.
رحلته مع الأونروا.. من الميدان إلى القيادة
بدأ شمالي مسيرته مع الأونروا عام 2005، وتدرّج في مناصبها حتى عُيِّن مديراً لعمليات الوكالة في قطاع غزة عام 2017، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 2021.
في تلك السنوات، كان القطاع يئنُّ تحت الحصار، ويتعرّض لحروب مدمّرة كل بضع سنوات، ومع ذلك نجح شمالي –بهدوئه وحكمته– في الحفاظ على استمرارية الخدمات الحيوية التي كانت تقدّمها الأونروا لمئات الآلاف من اللاجئين، رغم شحّ الموارد وتنامي الأزمات.
حين التقينا.. وتعرّفت عليه عن قرب
في كل اللقاءات التي جمعتنا –سواء في غزة أو في المؤتمرات الدولية– لمستُ في هذا الرجل نزاهةً وصدقاً في الأداء، وحرصاً واضحاً على الكرامة الإنسانية.
كان ماتياس يُدرك تماماً معنى أن تكون لاجئاً، وأن تحيا حياتك بين المخيم والجوع والحصار. لم يكن مجرد موظف دولي يؤدي واجباته، بل كان صديقاً للقضية، نصيراً للفقراء، ومؤمناً بأن فلسطين ليست مجرد ملف على مكتب أممي، بل قضية حق وعدالة.
للأسف، مرّت علينا فترات عصيبة وقعت فيها خلافات وصدرت اتهامات أساءت إلى الرجل، وهو ما آلمني كثيراً؛ إذ شعرت حينها أن بعضنا أطلق سهامه في الاتجاه الخطأ. لقد حاول البعض –بدون وعي أو دراية– تحميل الرجل ما لا يحتمل، متجاهلين حجم التحديات التي كان يواجهها، والمؤامرات التي تُحاك ضد الأونروا، في محاولة لتجفيف مواردها، وإنهاء دورها كشاهد حي على النكبة واللجوء الفلسطيني.
وكالة الأونروا.. ذاكرة اللاجئ الفلسطيني
تأسست وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) عام 1949 بموجب القرار الأممي 302، لتكون المظلة الإنسانية للاجئين الفلسطينيين الذين شُرّدوا بعد نكبة 1948.
وعلى مدى أكثر من سبعين عاماً، شكّلت الأونروا المرجعية الأممية الوحيدة التي توثّق وجود اللاجئ الفلسطيني، وتحمي حقوقه، وتحمل اسمه في السجلات الدولية.
في قطاع غزة، كانت الأونروا –قبل حرب الإبادة الجماعية في أكتوبر 2023– تُقدّم خدماتها لأكثر من 1.4 مليون لاجئ، عبر شبكة من المدارس التي تجاوز عددها 270، والمراكز الصحية والعيادات ومراكز توزيع المواد التموينية، إلى جانب برامج الدعم النفسي والاجتماعي.
وقد شكلت هذه المؤسسات الحضن التربوي لأجيالٍ من أطفالنا، وبوتقة الوعي الوطني والثقافي لشعبٍ لا يزال يقاوم النسيان.
المؤامرة على الأونروا.. واستهداف الهوية
لم يكن استهداف الأونروا طارئاً، بل هو نتاج حملةٍ منهجية شُرع فيها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، قادتها المؤسسات الصهيونية بدعم من حكومات إسرائيل المتعاقبة، وبمساندة من وسائل إعلام ومراكز دراسات غربية، هدفت إلى تشويه صورة الوكالة، واتهامها بالفساد والتحريض، فقط لأنها تذكّر العالم بأن ثمة شعباً ما زال يرزح تحت الاحتلال والشتات.
اليوم، لم تعد المؤامرة سرّاً. فالإدارة الأمريكية –بتحالفها مع حكومة الاحتلال– تقود هجوماً سياسياً ومالياً لتصفية الوكالة، ضمن مشروع متكامل يستهدف شطب قضية اللاجئين، واستكمال فصول “صفقة القرن” التي تسعى إلى طمس الرواية الفلسطينية، وتذويب الحقوق في صفقات التوطين والتطبيع.
الرحيل عن عمله بصمت.. والوفاء في الذكرى
رحل ماتياس شمالي بهدوء عن عمله كما كان في حياته، ولم نُحسن –كفلسطينيين– أن نرد له بعضاً من الوفاء.
واليوم، بعد الدمار الهائل الذي لحق بمرافق الأونروا إثر العدوان الإسرائيلي الأخير، ووسط تهديد وجودي يحيق بمصيرها، نتذكّر هذا الرجل الإنسان الذي دافع عنّا في المحافل، وطرق أبواب المانحين، وسعى في الأرض من أجل أطفالنا وفقرائنا ومرضانا.
لقد كان جديراً بالتكريم لا بالتجريح، وكان الأجدر بنا أن نُحسن الظن برجلٍ أفنى سنوات من عمره في خدمة قضية عادلة.
إن ماتياس شمالي لم يكن “مجرد موظف دولي”، بل كان صوت ضميرٍ حيٍّ في مؤسسةٍ تتعرّض اليوم لأقسى الهجمات، لأنها لا تزال تحتفظ بذاكرة اللاجئ، وتُؤمن بحق العودة، وتمنح الضعفاء أملاً في البقاء.
امتنانٌ لوكالةٍ صمدت معنا…
ولا يفوتني –في هذا المقام– أن أعبّر عن خالص امتناني لوكالة الأونروا، التي شكّلت على مدار أكثر من سبعين عاماً سنداً حقيقياً لشعبنا الفلسطيني في محطات اللجوء والمحن، ورافعةً إنسانية صادقة لقضيتنا العادلة.
لقد قدّمت الأونروا لشعبنا ما يفوق الإمكانيات المتاحة لها، من خدماتٍ تعليمية وصحية وإغاثية، كانت –ولا تزال– طوق نجاة لملايين اللاجئين، خاصة في قطاع غزة.
ولولا هذه الوكالة الأممية، لكانت مأساتنا أعظم، ومعاناتنا أشد، ولما استطعنا أن نبلغ هذا المستوى التعليمي الذي نفاخر به اليوم؛ إذ يُعدّ شعبنا –رغم اللجوء والفقر والحصار– من الشعوب الأعلى تعليماً في العالم العربي، وربما في العالم أجمع.
إننا مدينون لهذه المؤسسة بالكثير، ويجب أن نظلّ سنداً لها، وندافع عن بقائها واستمرارها، لأنها آخر ما تبقى لنا من مؤسسات المجتمع الدولي التي تعترف بمأساتنا، وتحمل سجلّ نكبتنا، وتمنح شعبنا الفقير بصيص أمل وعدالة وإنصاف.
كلمة وفاء… قبل أن نطوي الصفحة
إننا –كفلسطينيين– مدعوون اليوم أن نُحسن اختيار مواقعنا في هذه المعركة المفتوحة، وألا نطلق النار على أصدقائنا، ولا نخسر شخصيات نزيهة ورفيعة مثل السيد ماتياس شمالي.
وإنني إذ أستعيد ذكراه، وأخطّ هذه السطور من دفتر مذكّراتي، أرجو أن أكون قد رددت شيئاً من جميله، وعبّرت عن امتناني لجهوده، وتقديري لمواقفه، وشهادتي في رجلٍ رحل عن قطاع غزة إلى ساحة أخرى من فضاءات العمل الإنساني، وفي قلبه الكبير شيءٌ من الوفاء لفلسطين وأهلها الطيبين.