لم يطرأ تطوّر مفاجئ، من المتوقّع أن يُتوصّل إلى اتفاق تهدئة مرحلي في غزة في الأيام القليلة المقبلة، وقد يعلن الرئيس ترامب هذا الاتفاق أثناء زيارة بنيامين نتنياهو الذي وصل أمس إلى الولايات المتحدة (كتبت هذه السطور قبيل الزيارة). وفي حال الإعلان عنه، ستنصرف الأنظار خلال الستّين يوماً المقبلة، وما بعدها، إلى البحث في “سيناريوهات اليوم التالي”، إذ ستسعى الحكومة الإسرائيلية، مدعومةً بالإدارة الأميركية، إلى تحقيق إنجازات سياسية تترجم نتائج حرب الإبادة الجماعية، وتحويل قطاع غزّة منطقةً طاردة وغير قابلة للحياة. وسيُبذَل جهد سياسي لاستكمال ما عجزت عنه المجازر اليومية، والتجويع، والتعطيش، والعقوبات الجماعية بكلّ أشكالها.
ومعروفٌ أن المفاوضات إمّا أن تنجح، أو تبقى مفاوضاتٍ من أجل المفاوضات، أو تفشل وتُبقي الأمور على حالها. وإذا نجحت، فعادةً ما تعكس بالإجمال الحقائق في الأرض وموازين القوى، فنتائج المفاوضات لا تُحدَّد فقط بمدى كفاءة المفاوض أو ضعفه، رغم أهمية ذلك، إذ إن مفاوضاً ضعيفاً قد يخسر أكثر ممّا ينبغي، ولا يحقق ما يمكن تحقيقه، ومفاوضاً كفؤاً قد يحسّن الشروط التفاوضية، ولكن في العادة لا يمكن تحقيق (من الناحية الجوهرية) عكس ما هو في الأرض. انطلاقاً من ذلك، يجب أن تكون الخطوة الأولى قراءة الواقع قراءةً دقيقةً لمعرفة الممكن وغير الممكن.
منذ غزو قوات الاحتلال الإسرائيلي لبنان (1982) بدأ يتشكّل “الشرق الأوسط الجديد
وتشير القراءة الواقعية للواقع الراهن، بعد 21 شهراً من طوفان الأقصى، رغم الصمود الأسطوري والمقاومة الباسلة، إلى ضعف موقف المفاوض الفلسطيني، كما يظهر في حجم الدمار والموت، واحتلال ثلثي القطاع، واستمرار الانقسام وتعميقه، وغياب رؤية فلسطينية واضحة، ومأزق القيادات والمؤسّسات والبرامج من دون فتح مسار جديد، والعجز العربي الذي يصل أحياناً إلى التواطؤ، والتناقضات الدولية. فمن جهة، يقف المجتمع الدولي (رغم موقفه الداعم نظرياً للحقوق الفلسطينية) عاجزاً عن الفعل، رغم التضامن الشعبي الهائل وغير المسبوق مع فلسطين، وإدانة إسرائيل حتى في المحاكم والمؤسّسات الدولية ومن الغرب، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة وأوروبا، وهو ما دفع دولاً أوروبية إلى اتخاذ مواقف وإجراءات عقابية غير مسبوقة ضدّ إسرائيل.
ومن جهة أخرى، تلقّت أطراف محور المقاومة، بما في ذلك إيران، ضربات قوية، رغم صمودها في الحرب، ولكنّها وجّهت ضربات صاروخية قاسية ضدّ أهداف حيوية في مختلف الأماكن في إسرائيل، ومنعت واشنطن وتل أبيب من تحقيق أهدافهما، المتمثّلة بتدمير البرنامجين النووي والصاروخي، وإسقاط النظام أو دفعه إلى الإذعان أو إحداث فتنة داخلية، بدليل الالتفاف الواسع حول النظام، لكن وقف الحرب لم يترافق مع اتفاق، وإنّما اتفاق وقف لإطلاق النار فقط، والقضايا التي سبقتها لا تزال مطروحة بعدها. وهذا يعني أن الحرب لم تُحسم، وأن كلّاً من الطرفين حقّق نقاطاً تتيح له ادّعاء النصر. سبق للمنطقة والعالم أن شهدا حروباً لم تُحسم، مثل الحرب الكورية في خمسينيّات القرن الماضي، التي ما زالت من دون اتفاق سلام، أو حرب العراق، الأولى التي انتهت بطرد جيش صدّام حسين من الكويت عام 1991، ثمّ الثانية التي انتهت بإسقاط النظام عام 2003. أمّا حرب أكتوبر/ تشرين الأول (1973)، فلم تُحسم عسكرياً، بل حسمت سياسياً بعد سنوات من زيارة أنور السادات القدس عام 1977، وتوقيع اتفاق السلام بعد ذلك (1979)، استردّت معه مصر سيناء ضمن قيود، وخرجت من الصراع والحرب، ما جعل الأطراف العربية (بما فيها الطرف الفلسطيني) مكشوفةً، فغزتْ قوات الاحتلال لبنان عام 1982، ومنذ ذلك التاريخ بدأ تشكّل “الشرق الأوسط الجديد”، الذي هو عملية تاريخية طويلة الأمد، تتقدّم حيناً وتتراجع حيناً آخر.
وتصطدم إسرائيل، رغم الإنجازات التي حققتها ونقاط القوة والتفوق التي تملكها، وأنها كيان وظيفي خدمةً لمشروع استعماري عالمي تقوده الولايات المتحدة، بحقيقة أن طموحاتها التوسّعية، وسعيها إلى الهيمنة على المنطقة، أكبر من قدراتها على تحقيقهما، فهي دولة صغيرة المساحة قليلة السكّان، تعاني نقاط ضعف وتناقضات داخلية كثيرة، ومن أنها جسم غريب مزروع في المنطقة العربية، ولا يمكن استيعابه فيها ما لم تتغيّر طبيعتها الاستعمارية الاستيطانية، ودورها الوظيفي، ومن وجود أكثر من سبعة ملايين فلسطيني في أرض وطنهم فلسطين، وهم غير مستعدّين للرحيل، أو للتحول إلى عبيد، ومصمّمون على الصمود ومواصلة الكفاح لتحقيق أهدافهم.
بناءً على ذلك، من المرجح أن المنطقة تتّجه نحو واحد من السيناريوهات التالية: إمّا استمرار الوضع القائم من دون تسوية بين إيران وإسرائيل، أو التوصّل إلى تسوية يحقّق كلُّ طرف فيها بعض مطالبه أو إخضاع إيران بالوسائل الناعمة، وخلال سنوات، أو اندلاع حرب جديدة لتحقيق ما لم يتحقّق في حرب الـ12 يوماً، أو استمرار سياسة “المعارك ما بين الحروب”. لكن ما بات واضحاً أن هناك نوعاً من “توازن الردع” قد تحقّق، أوقف الاندفاعة الأميركية الإسرائيلية مؤقّتاً أو إلى الأبد، وهذا يتوقّف على مسار الأحداث إقليمياً ودولياً في السنوات المقبلة، نحو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، بصورة تهيمن عليها إسرائيل، أو إيجاد نوع من التعدّدية والتوازن الإقليمي والدولي.
الأسوأ بالنسبة إلى إسرائيل عودة السلطة إلى غزّة في توافق فلسطيني داخلي ودعم عربي دولي
كما أن الدول العربية، ولا سيّما الخليجية، عليها أن تتصرّف على أساس أنها أصبحت في موقف تفاوضي أفضل ممّا كانت عليه قبل الحرب. فلو هُزمت إيران، لكانت إسرائيل أكثر عدوانية تجاه الجميع، حتى من طبّع معها، ولكانت أكثر قدرة على التقدّم في طريق تحقيق تصفية القضية الفلسطينية بمختلف مكوّناتها. أمّا في إسرائيل، فبعد 21 شهراً من الحرب، لم تحقّق تل أبيب أهدافها رغم إنجازاتها العسكرية. وحتى في سورية، حيث تغيّر النظام بالكامل، وقام بدلاً منه نظامٌ معادٍ لإيران، فليس مرجّحاً أن يعقد النظام الجديد معاهدة سلام مع إسرائيل، لأنه لا يملك القوة الكافية، ولا الشرعية التي تمكّنه من الإقدام على مثل هذه الخطوات الكبيرة، بل أقصى ما يمكن أن يُقدِم عليه هو اتفاق هدنة أمني. وفي لبنان، لا بوادر لتطبيع ونزعٍ لسلاح حزب الله، بل الاحتمالات مفتوحة، بما فيها عودة الحرب. التراجع النسبي للتهديدات الأمنية قد يسمح للقيادة السعودية بالتمسّك بموقفها: لا تطبيع من دون قيام دولة فلسطينية، وهو أمر من المستحيل أن توافق عليه الحكومة الإسرائيلية الحالية.
ويبدو أن فرص حزب ليكود تزداد في الانتخابات المقبلة، في ظلّ معارضة لا تختلف عنه كثيراً في تطرّفها، ويجمعها هدف واحد، هو التخلّص من نتنياهو من دون تبنّي رؤية بديلة، ما يجعل سيناريو فوز نتنياهو في الانتخابات المقبلة مطروحاً. في هذا السياق، لن يكون ممكناً تحقيق إنجازات كبيرة في المسارات الأخرى، لذا ستركّز إسرائيل في تحقيق إنجازات سياسية في المسار الفلسطيني. فبينما تدرك (أو ستدرك عاجلاً أو آجلاً) صعوبة تحقيق أهداف الحدّ الأقصى، مثل الاحتلال الكامل لغزّة وفرض حكم عسكري، أو التهجير والضمّ وتصفية القضية الفلسطينية، مع أنها ستُبقي الباب مفتوحاً لذلك، لكنّها ستنزل عن الشجرة، وتحاول تحقيق أهداف الحدّ الأدنى، مثل ضمّ أجزاء من الضفة الغربية، والإبقاء على السيطرة الأمنية في غزّة، لا سيّما عبر السيطرة على المناطق العازلة، وعلى محاور استراتيجية، خصوصاً عند الحدود المصرية الفلسطينية، وتلك التي تربط بين دولة الاحتلال وقطاع غزّة.
ستسعى أيضاً إلى التعامل مع غزّة كما تتعامل مع الضفة الغربية ولبنان: استمرار الحصار، والقصف، والاغتيالات، والاقتحامات، ودفع الأمور إلى الفوضى والاقتتال الداخلي، من دون الدخول في احتلال مباشر مكلف بشرياً لقوات جيش الاحتلال، ومن دون تعريض حياة المحتجزين الإسرائيليين للخطر، مع الإشارة إلى أنها لم تحقق أهدافها رغم استنفاد الجيش الإسرائيلي ما يمكن تحقيقه، كما يقول قادته، الذين يفضّلون اتفاقاً مرحلياً يفتح الطريق لإنهاء الحرب. ومن المتوقّع أن نشهد (خصوصاً إذا عقد اتفاق التبادل ولم يفشّل) تنفيذ محاولات مكثّفة لإسقاط حكم حركة حماس، ونزع سلاحها وسلاح المقاومة، وإبعاد ما تبقّى من قياداتها خارج القطاع. غير أن نقطة الضعف الإسرائيلية الرئيسة، التي تحدّ من (إن لم نقل تمنع) تحقيق الأهداف الإسرائيلية، هي غياب البديل السياسي لـ”حماس” في غزّة. فحكومة اليمين المتطرّف لا ترغب (أو لا تقدر) على تحمّل كلفة الاحتلال المباشر وفرض حكم عسكري، وفشلت في إيجاد عناصر محلّية تتولّى الحكم، فمليشيا ياسر أبو شباب ستنهار إذا أعادت قوات الاحتلال انتشار قواتها، لذلك طالب نتنياهو بإقامة مدنٍ خيمٍ في رفح، وتهجير السكّان من الشمال إلى الجنوب، وبقاء السيطرة الإسرائيلية في عدّة محاور مهمّة، لأن المليشيات العميلة لا يمكنها العمل ولا البقاء إلا تحت الحماية الإسرائيلية المباشرة، كما فشل رهانها على العائلات والعشائر، ولا توافق إسرائيل على عودة السلطة، كما ترفض حتى الآن وضع غزّة تحت وصاية عربية أو عربية دولية، لأن الدول المرشّحة للمشاركة، أو معظمها على الأقلّ، لا تقبل بذلك، لأنها ستوفّر الغطاء لبقاء الاحتلال أو السيطرة الأمنية الإسرائيلية.
تحقق نوع من “توازن الردع”، ولو هُزمت إيران لكانت إسرائيل أكثر عدوانية تجاه الجميع
وتخشى حكومة نتنياهو من أن تجد نفسها، في نهاية المطاف، مضطرة للقبول ببقاء “حماس” في القطاع، داخل الحكم أو خارجه، ولكن مع قدرة على التأثير والتحكّم، فإذا استمرّت في رفضها عودة السلطة أو الوصاية العربية، فقد تجد نفسها أمام هذا الواقع، لذلك يجب الاستعداد لسيناريو تجدّد الحرب بعد انتهاء فترة الـ60 يوماً، أو بعد تمديدها، مع أن ذلك سيكون صعباً بسبب نشوء قوة دفع داخلية إسرائيلية فلسطينية، وإقليمية ودولية، خصوصاً أميركية، لن تساعد في استئناف الحرب على الأقلّ بالشكل الذي كانت عليه. والسيناريو الأسوأ بالنسبة إلى إسرائيل هو عودة السلطة إلى غزّة في إطار توافق فلسطيني داخلي، ودعم عربي دولي، لأنه يجسّد الهُويَّة الوطنية الفلسطينية في كيان واحد، ويُبقي باب الدولة الفلسطينية مفتوحاً. وعلى هذا السيناريو يجب العمل فلسطينياً، من كلّ فلسطيني وطني مخلص يريد حماية القضية والأرض والإنسان، وكلّ فلسطيني لا يريد أن يستسلم ويصبح عميلاً للاحتلال، فالسلطة “المتجدّدة”، التي يمكن أن توافق عليها دولة الاحتلال، هي التي تقبل أن تكون غطاءً للحلّ الإسرائيلي، سواء بصيغة خطّة الحسم، أو خطّة مستمدّة من نظريات إدارة الصراع وتقليصه، التي يمكن أن تتبناها حكومة إسرائيلية جديدة بائتلاف مختلف برئاسة نتنياهو أو غيره، وهي لا تختلف مع سابقتها سوى بأنها تحاول تحقيق ما يمكن تحقيقه إسرائيلياً الآن، لأن تحقيق حسم الصراع كلّياً ليس ممكناً، لا الآن، ولا مستقبلاً.
ويزيد هذا التهديد أن هناك تحرّكاً دولياً تقوده السعودية وفرنسا لعقد مؤتمر دولي لإقامة دولة فلسطينية، قبل نهاية هذا العام، شرطاً للاستقرار والتعاون والسلام الإقليمي. صحيح أن هذا التحرّك يواجه رفضاً إسرائيلياً مدعوماً من واشنطن، لكن إذا سقطت حكومة نتنياهو المتطرّفة، وجاءت حكومة برئاسة نفتالي بينت، تتبنّى مقاربة “إدارة الصراع وتقليصه” بدلاً من “حسمه”، فقد نعود إلى مرحلة إدارة الصراع من دون حلّ، أو تُفتح نافذةٌ ضيّقةٌ لـ”تسوية” ما بين المواقف الفلسطينية العربية الدولية، والموقف الإسرائيلي الأميركي.