يثير التقدم المتسارع للذكاء الاصطناعي سؤالاً حتميًا حول مستقبلنا: كيف نصل إلى عالم أكثر أتمتة بطريقة تعود بالنفع على البشرية؟ قد يبدو الطريق المباشر هو أتمتة كل شيء ممكن، لكن هذا التسرع سيكون خطأً فادحًا.
فالأتمتة غير المكتملة ليست خطوة أولى نحو أتمتة مثالية، تمامًا كما أن القفز إلى منتصف وادٍ سحيق ليس خطوة نحو عبوره بالكامل. فبدلاً من المخاطرة بالقفز، قد يكون من الأجدى بناء جسر.
هذا هو بالضبط موقفنا الحالي مع الذكاء الاصطناعي؛ إنه ليس جاهزًا بعد للقفز، وبدلاً من دفعه نحو الهاوية، يجب أن نستخدم قدراته المذهلة لبناء جسور التعاون مع الخبراء البشر، لا لاستبدالهم.
وهم الأتمتة الكاملة: حينما تصبح الأدوات الذكية عائقًا
تقدم لنا الأشعة التشخيصية مثالاً صارخًا على مخاطر الأتمتة المفرطة. في دراسة شهيرة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وجد الباحثون أن دقة تشخيص أطباء الأشعة قد انخفضت عند استخدامهم لأداة ذكاء اصطناعي تسمى “CheXpert”، على الرغم من أن الأداة نفسها كانت تتفوق على ثلثي الأطباء عند عملها بمفردها.
لماذا أدت أداة جيدة إلى نتائج سيئة؟ لأن الأطباء لم يعرفوا متى يثقون في حكم الذكاء الاصطناعي ومتى يعتمدون على خبرتهم. والأهم من ذلك، أن الأداة صُممت لأتمتة مهمة الطبيب بالكامل، لكنها لم تكن قادرة على فهم السياق الكامل للحالة الطبية، مثل تاريخ المريض والمحادثات معه. لم تكن الأداة مصممة “للاستماع” أو “التعاون”، بل لإعطاء إجابة نهائية، مما وضع الطبيب أمام خيارين فقط: إما حكمه أو حكم الآلة.
ويتكرر هذا النمط الخطير في مجالات أخرى. ففي حادثة طائرة الخطوط الجوية الفرنسية 447 المأساوية عام 2009، تعطلت مستشعرات السرعة، فقام الطيار الآلي وهو أداة أتمتة ممتازة بإلغاء نفسه فجأة وإعادة السيطرة إلى الطيارين المذهولين، وأغرقهم بسيل من التحذيرات المربكة. لقد كان أداة أتمتة رائعة حتى اللحظة التي فشل فيها، وعندها أصبح أداة تعاون كارثية أدت إلى فقدان السيطرة المعرفية على الموقف.
قوة التعاون: عندما يصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا لا بديلاً
في المقابل، تحتوي الطائرات الحديثة على أداة أخرى أقل شهرة: شاشة العرض العلوية (HUD).
هذه الشاشة هي أداة تعاون بحتة، تعرض بيانات الرحلة مباشرة في خط نظر الطيار دون أن تحاول قيادة الطائرة. إنها تزيد من خبرة الطيار ولا تبقيها “مجمدة” حتى اللحظة الأخيرة. والنتيجة؟ الطائرات التي يستخدم طياروها شاشات HUD تتعرض لحوادث أقل من تلك التي تعتمد على أنظمة الهبوط الآلي.
وقد أثبتت الدراسات الحديثة نفس المبدأ في الطب. في دراسة شملت 2,133 حالة طبية غامضة، أثبت الفريق المكون من “طبيب + ذكاء اصطناعي” أنه الأكثر دقة، حيث تفوق على الأطباء الذين يعملون بمفردهم بنسبة 85%، وعلى الذكاء الاصطناعي الذي يعمل بمفرده بنسبة 20%. جاء النجاح من تكامل نقاط القوة: عندما فات النموذج دليل، رصده الطبيب، وعندما أخطأ الطبيب، سد النموذج الفجوة.
المخاطر المستقبلية
إن الإغراء نحو الأتمتة المفرطة يحمل في طياته مخاطر تتجاوز مجرد الأخطاء. فهناك أدلة مبكرة على أن الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي قد يعيق تنمية مهارات التفكير النقدي لدى المستخدمين. وفي المجالات التي تتطلب خبرة عالية، مثل القانون، يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تعزز إنتاجية الخبراء، لكنها قد تضلل المبتدئين الذين يفتقرون إلى القدرة على اكتشاف الأخطاء.
الأخطر من ذلك هو أن أتمتة المهام التي كانت تُسند سابقًا للمتدربين والمقيمين والطيارين الجدد تهدد مسارات اكتساب الخبرة في المستقبل، مما يخلق فجوة في المواهب التي سنحتاجها غدًا.
الخلاصة: بناء الجسور بدلاً من القفزات العمياء
الأتمتة الكاملة أصعب بكثير من التعاون. فأداة التعاون لا تحتاج إلى أن تكون معصومة من الخطأ لتكون مفيدة، في حين يجب أن تكون أداة الأتمتة شبه مثالية. لن تتسامح مع ناقل حركة آلي يفشل أحيانًا في تغيير السرعة، أو مصعد يتعطل بانتظام.
السؤال الصحيح ليس “هل” يجب أن نستخدم الذكاء الاصطناعي، بل “كيف”. والإجابة الصحيحة هي: كلاهما.
يجب أن نستخدمه للأتمتة في المهام التي أتقنها، وللتعاون في المجالات التي لا تزال فيها الخبرة البشرية بسياقها وحدسها وأخلاقها وإبداعها لا غنى عنها. إن تحقيق هذا التوازن هو التحدي الأكبر، ولحسن الحظ، بدأت مبادئ استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل تعاوني في الظهور الآن. أمامنا وادٍ لنعبره، وعلينا أن نختار طرقنا بحكمة.